لقد عرفت البلدان العربية حراكا اجتماعيا غير مسبوق في تاريخها الحديث ،نتيجة لتنامي الوعي بالحقوق و الواجبات وتصدر المطالب العرائضية مقدمة التظاهرات الشعبية ، المنادية بالتغيير والتجديد في انماط التعاطي مع الشأن العام ،بعد ما انكسر جدار الصمت من خلال انقلاب القيم
والمفاهيم علي الركود المهيمن و الاحتكار القائم .فرياح الربيع العربي ،هزت المعمورة بدون مفاجأة،لأن الشعوب العربية واقعها كان ينبئ لا محالة بالثورة ،لتأخذ مصيرها بيدها،كي تصحو من سبات عميق،طبع مناحي الحياة الراكدة و جثم بقوة الواقع علي ضمائر القوة الحية طيلة عقود من الزمن. لقد ادت لانتفاضة الشعبية منذ البداية إلي سقوط الأقنعة من خلال تلاشي انظمة الاستبداد في مصر وتونس وليبيا واليمن مع تبديل خارطة الطريق لبقية البلدان العربية سوريا نموذجا، بشكل ادي الي ظهور ماباة يعرف بالربيع العربي الذي لم يعمر طويلا امام تلاحق الفصول الصيفية والشتوية الدامية ،نتيجة انفجار وتيرة العنف من خلال الاغتيالات السياسية في تونس وليبيا من جهة والمواجهة الصريحة بين الارادة الشعبية والشرعية الدستورية في مصر و سوريا و اليمن من جهة اخري.لقد وصلت الأوضاع العربية اليوم إلي مستوي المأزق او الأزمة الشائكة ذات المعوقات المعقدة وما يزيد هذه الوضعية تأزما ، تراكم المؤشرات القوية لظواهر العنف والإرهاب والتطرف الداخلي ،بالإضافة إلي انقسام النخب السياسية علي نفسها وانفصالها عن المواقف الجماهيرية العامة ، نتجت عنها عدة اخفاقات بينية ، طفت علي المشهد السياسي العربي في معظم تجلياته.فالأنظمة التي افرزها التحول المفاجئ علي مستوي القمة ،لم تكن منسجمة الي حد التحكم في الشأن العام ،لواقع شعوب تعاني تراكم عدة ازمات ،سياسية واجتماعية، بالإضافة الي بسط نفوذ الازمة الاقتصادية العالمية علي مختلف حلقات العملية السياسية برمتها وتأثيرها المباشر علي النفوذ العالمي في ارادة شعوب دول الربيع العربي ، من خلال فرض المصالح الغير متكافئة مع توسعة الرؤية الاستراتيجية للهيمنة و التسلط في مصير شعوب المنطقة ،علي شاكلة النظرة التقليدية في خلق تحالفات اقليمية و دولية ،مؤثرة في مسار الثورات العربية ، التي ادهشت اكثر من مراقب ، بفعل صدمة وتيرة الاحداث المتتالية دون سابقة في المنطقة.فقابلية التأقلم مع متطلبات العصر من حراك سياسي واجتماعي ،نتجت عنه في بعض النماذج نتائج وخيمة ، حملت معها انتفاضة الشارع العربي المطالب بالتغيير والتجديد الذي أثمر ينابيع الربيع العربي والذي فرض نفسه كمعادلة إقليمية لا مناص منها في وجه غطرسة التحولات المتسارعة ، بفعل إرادة الشباب القادم من فلك بعيد والذي أصبح هو الآخر يفرض نفسه كخيار بديل يحمل أكثر من دلالة. ذلك أن تعاطي النخب مع هذا الحدث أظهر أن هناك حاجة ملحة في إحداث تأمل و تفكير للإصلاح، قبل الوقت بدل الضائع حول الحراك الشبابي المتنامي بصورة جدية.الشيء الذي انجب عدة انماط من الاحكام الضعيفة العهد بالممارسة السياسية ، نتيجة التحكم المبكر الي صناديق الاقتراع مع عدم استيعابية حاجة الشعوب العربية في مسألة التغيير ، دون الترتيب المسبق للفرضيات الازمة لقيام انظمة سياسية قوية ،منسجمة مع تطلعات شعوب المنطقة العربية ،في الامن و الاستقرار والتنمية المستديمة ،مع ضرورة قيام انظمة ديمقراطية تتماشي و خصوصيات هذه البلدان.
حقيقة الأمر ان الوضع العربي الراهن،مؤلم بكافة تجلياته،لكنه قد يكون مسار ضروري،لقد أجهضت التطلعات الكبري في التغيير البناء و الديمقراطية،التي تحولت الي صيف حار دموي قاتل في جل حلقات المسلسل الانتقالي ،في بلدان مصر،ليبيا،سوريا،اليمن،بعد ما فاق العقل التونسي متأخرا ،بدل الدوران في حلقة مفرغة،ليسلك طريق السداد.فقراءة التاريخ بشكل عقلاني تخبرنا ان مسلكيات الأحداث كثيرا ما تكون إيجابية في معظم الثورات التي غيرت مصائر البشرية،علي الرغم من صعوبة البدايات،ذالك ان الثورة الفرنسية انتكست عدة مرات ،قبل أن تطفو علي سطح الواقع مكرسة الحقوق الدستورية للفرنسيين.ما من ثورة ولدت حائزة الكمال المطلق ،إلا و تعثرت مساراتها و كانت نتائجها غير محتملة العواقب علي حركية الشعوب،خاصة حين يتعلق الأمر بأوضاع معقدة،لأحكام مدين للديكتاتوريات العسكرية المهيمنة،مهمة التخلص منها ليست بالأمر الهين ،كما يتصور البعض .فاليوم لا أحد يمكن ان يتكهن بنهاية الأزمة و لا حجم ثمنها. فاستلام السلطة لا يعني بالضرورة القدرة علي الاستقرار والاستمرار من خلال التحالف مع اكبر قدر من القوي السياسية في اطار تشكيل تحالف قوي مسيطر علي كافة مناحي الحياة ،خاصة في فترة اولية لاحقة لصعود التيارات الاسلامية في مجمل هذه البلدان ، نتيجة لعدة عوامل يأتي في مقدمتها عامل الخبرة و التنظيم المتقدم علي باقي مكونات الثورة ،التي ظلت تعاني التبعثر و الاخفاق ،مع تشتيت الجهود الداخلية التي حالت دون ترتيب الامور العامة ، علي شكل يرضي كافة مكونات الطيف السياسي في بوتقة تتلاءم و متطلبات العصر من خلال الحوار والتفاهم.ينضاف الي هذه الخروقات الانفة ،تهميش القوي الشبابية التي قادت الثورة ،حيث استبعاد الحراك الشبابي الذي كان المحرك لتجربة الثورة الوليدة ،من مشهد سياسي معقد التركيبة و متنوع التأثيرات المتبادلة ، التي مافتئت تطفو علي السطح ، بفعل تلاحق وضعية الغليان الشعبي كظهور حركة تمرد في مصر ، كردة فعل علي فشل الثورة الاولي في تحقيق أهدافها و ما آلت اليه الامور من تأثيرات علي الشارع العربي ، ادت في بعض الاحيان الي تدخل الجيش تحت قناع الارادة الشعبية لتغيير مسار الثورات الحديثة العهد و بالتالي الخروج علي المألوف بانقلاب عسكري ، اصبح الشغل الشاغل و المهيمن علي مجريات الأحداث ،قصد الوصول الي مخرج للأزمة المصرية الحالية .فمنذ 30 يوليو 2014 ،تعيش مصر تطورات دراماتيكية متسارعة ، انقسم فيها الشارع المصري بين مؤيد للشرعية الدستورية و مؤيد لتدخل الجيش ،لصالح انهاء حكم الاخوان المسلمين والتي تتعقد اكثر فأكثر ،تزامنا مع مواقف القوي الإقليمية والدولية ، المؤثرة في مصير دول الربيع العربي ،لما لها من وقع بفعل الدور التركي والإيراني بالإضافة إلي الموقف الغربي – الأوروبي والأمريكي – مما ولد تداعيات ما بعد الثورات العربية ،حتى مع طابع الشرعية الدستورية التي يلوح بها النظام المصري بعد الانتخابات الرئاسية و صعود عبد الفتاح السيسي كرئيس منتخب.كما تمر ليبيا اليوم بمرحلة انتقالية صعبة،نتيجة لتباين المواقف لمختلف الفرقاء السياسيين،علي الرغم من تحقيق تقدم كبير نحو جمع الأطراف الليبية حول طاولة الحوار،قصد التوصل الي حل سياسي يضمن استتباب الأمن بالطرق السلمية،بدل لغة السلاح التي بدأت تتآكل بلا جدوى. لقد بدأ المجتمع الدولي في التعاطي مع الأزمة الليبية بشكل إيجابي،يفضي الي تقديم الآليات الكفيلة بالإحاطة بمختلف الأطراف المتنازعة ،قصد التوصل الي تشكيل حكومة وحدة وطنية توافقية،مما يضمن إعادة الأمن و الاستقرار،تمهيدا لمواصلة العملية السياسية بين مختلف الجماعات المتنافرة حول السلطة في ليبيا.كما ان الكيان الليبي مهدد بكارثة محدقة،تتمثل في خطر الإرهاب،الذي يؤثر سلبا علي دول الجوار،خاصة الدول المغاربية ،التي تربطها قواسم مشتركة بحكم التاريخ و الجغرافيا و الترابط الاجتماعي،مما يتطلب تضافر جهود كافة الأطراف مع المبعوث الدولي،لمعالجة جروح الحرب الأهلية الدائرة،لكبح انتشار العنف و تصدير الجريمة عبر الحدود،كون ما يحدث في ليبيا له انعكاسات علي المنطقة العربية و الإفريقية و حتى المحيط الإقليمي الأوروبي.ينضاف الي الوضعية الأنفة،تعقد الإشكالية اليمنية،حين قامت المملكة العربية السعودية في الوقت المناسب،بمبادرتها التاريخية التي تمثلت في عاصفة الحزم،فاستطاعت ان تحشد تحالفا عسكريا قويا،استجابة لفرض الشرعية في اليمن.مكنت المبادرة السعودية الأمة العربية من استعادة مجدها الحضاري لعصورها الذهبية،لذالك لقت هذه المبادرة الترحيب و التعاطف من قبل المجتمع الدولي،نتيجة الوضع المأساوي الذي آلت إليه اليمن من هزات عنيفة،علي يد فئة طائفية تهدف إلي تمزيق البلاد و زعزعة أمنها و استقرارها ،مع نسف العملية السياسية التي قادت الي مصالحة وطنية بإرادة الشعب اليمني.إن تسارع الأحداث و السباق مع الزمن الذي أنتهجه الحوثيون و الرئيس المخلوع صالح،لفرض الأمر الواقع بالقوة العسكرية،نتج عنه تعطل الحوار السياسي و بالتالي إجهاض العملية السياسية القاضية بإرساء نظام ديمقراطي توافقي،يجمع كافة الأطراف المتنازعة في اليمن علي مسار موحد لصيانة المكتسبات الوطنية.لا شك أن الحفاظ علي الشرعية الدستورية و الدفاع عن الشعب اليمني،كانت من العوامل التي دفعت الي التدخل في اليمن،لكن التهديد الذي يشكله الحوثيون للأمن القومي للمملكة العربية السعودية علي وجه الخصوص و المنطقة العربية بشكل عام،كان ذو أهمية قصوى،نتيجة النفوذ الغير مسبوق لإيران في العراق و تمددها للسيطرة علي شبه الجزيرة العربية،خاصة ان سقوط صنعاء في يد الحوثيون،يجعل أقلية طائفية مسلحة شيعية تتحكم في محيط سني ضخم،تتجاوز نسبته 70% من سكان اليمن ،مما يدل ان الحليف الإيراني يصب الزيت علي النار وسط حالة من الغليان و الغضب الجماهيري،قد يحول المنطقة الي كانتونات متناحرة.اليمن ينزلق بسرعة كبيرة نحو الفوضى الدينية القاتلة،ذالك ان بيئة اليمن أشد خطرا من بيئة العراق،زيادة علي انتشار البطالة و القهر و سوء الأوضاع المعيشية،مما يسهل أختراقها بالتنظيمات المتطرفة ،الشيء الذي ينذر بكارثة،تتطلب من المجتمع الدولي ممثلا في الغرب و الدول العربية،تشكيل تحالف لمواجهة الفوضى الخطيرة المحتملة،كي لا تتحول اليمن الي دولة فاشلة يعمها العنف في الشرق الأوسط الساخن و الدموي،كحتمية لتجليات صراعات الربيع العربي،المكرسة بالفوضى و عدم الاستقرار،زيادة علي اندثار البلدان العربية بواسطة الحروب الأهلية و الأزمات الاقتصادية.