تمهيد: يقول الحق سبحانه و تعالى: "لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم".. و يقول جل من قائل: "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به". صدق الله العظيم.
في الواحد والعشرين من يونيو 2014، أشرف الجنرال محمد ولد عبد العزيز على فصل مسرحي آخر، كان هذه المرة أكثر رداءة من حيث الإخراج والتمثيل، ولم يستطع أي سياسي معتدل قبول المشاركة في هذه المهزلة، فلم يكن أمام الجنرال سوى الإيعاز لإدارة أمنه بترشيح بعض منتسبيها في محاولة للتخفيف من المظهرية الأحادية التي طابقت جوهر النظام.
إن ما جرى في الواحد والعشرين من يونيو لا يعد انتخابات بأي مقياس، إنه حلقة أخرى من التدهور الأخلاقي والقيمي في قيادة الدولة. إذ باستثناء منتسبي الأمن لم يترشح شخص يحترم نفسه، وباستثناء السياح الانتخابيين ، شهود الزور، من الجامعة العربية والاتحاد الإفريقي، لم يصل أي مراقب ذي مصداقية، كما أن مليون موريتاني بالغ غير مسجلين في اللائحة الانتخابية، وقاطع نصف المسجلين، ورغم آلة التزوير وحشو المحاضر وخانات النسب من طرف لجنة الانتخابات، فإن يوم الاقتراع كان مأتما انتخابيا حقيقيا، لا يترجمه سوى منظر تلك المكاتب التي لم يزرها غير أعضاء مكتب التصويت. وحسب ما لدينا من معلومات من مصادر ذات مصداقية فإن نسبة المشاركة لم تتجاوز 31,7%.
لا يوجد وصف لمسرحية الانتخابات المنصرمة، سوى أنها حلقة من العبث اللامجدي، والسقوط المدوي في هاوية الأحادية، والإبحار غير المأمون في منزلق الطين الآسن.
يتضح ذلك من خطاب المرشح ولد عبد العزيز، الذي اقتصر برنامجه الانتخابي على الجهر بالسوء من القول منكرا وزورا وكيل الشتائم لنخبة المعارضة الشريفة، التي رفضت تشريع انقلاب انتخابي آخر.
لقد ظهر الجنرال مهزوزا واعترف بالهزيمة الشعبية حتى في خطاباته الانتخابية التي تحولت إلى جوقة سوقية سافلة، عندما أعلن أنه سيسعى لتحرير الشعب الموريتاني من احتكار نخبة سياسية معينة للتوجهات السياسية للشعب.. أي اعتراف في نجاح المعارضة بعد ذلك.
الجنرال يملك الدبابات و أموال و إمكانات الدولة، التي لا يتورع من استغلالها لأغراضه الشخصية، لكن قادة المعارضة يملكون عقول و قلوب شعبهم بالتي هي أحسن، وبالخطاب الديمقراطي، والتوعية، وبعرق النضال المتصبب منذ خمسين عاما من أجل موريتانيا ديمقراطيه حرة، نامية.
ردا على الهزيمة الشعبية لانتخاباته الأحادية، ولصدود الناخبين عن نعيبه الانقلابي، بدأ ولد عبد العزيز سحب طابوره الخلفي من المعارضة. هذا جيد حقا.
لقد أعلن منتدى الديمقراطية والوحدة، وبوضوح، رؤيته للانتخابات المنصرمة، إنه ليس معنيا بانتخابات لا تعنى الشعب الموريتاني، انتخابات تتوج المزور، والمفسد، والرئيس الأقل أخلاقية في تاريخ البلاد.
ثمة نقاط في هذا المجال تستحق الرد:
أولا: إن من السخرية بمكان أن يعلن ولد عبد العزيز خلال حملته الانتخابية أن موريتانيا لم تكن معروفة قبل 2009، تاريخ محاولة تشريعه للانقلاب العسكري. كبرت كلمة تخرج من فمه. إنها بحق كلمة من كلام السخط الذي يغضب الله تعالى. فهي أعظم من نهب الثروات وتجويع الأطفال والأمهات وتزوير الانتخابات. إذ كيف يجرؤ عسكري من الدائرة الخلفية، صاحب سوابق ولواحق، لم يكن حينا من الدهر شيئا مذكورا، قادم من ظلام بيع الناس نميمة للقمع والإفقار في العهد الطائعي إلى الساحة السياسية ليصبح قائد رأي وزعيم أمة بموجب سلسلة انقلابات عسكرية وأخلاقية و كأن سيئاته تبدلت حسنات بمجرد توبة لم يعلنها أو كأنه قد اكتسب مناعة جديدة، كما نسمع من حين لآخر عن جيل جديد من الفيروسات الفتاكة. كيف يبلغ به الغرور التطاول على تاريخ شنقيط و الشناقطة، هذه المجرة العملاقة الشامخة، الحافلة بالشيوخ والعلماء والصلحاء والأبدال والدعاة الذين ذاع صيتهم شرقا وغربا، الحافلة أيضا بالملاحم البطولية لشهدائنا الأبرار الذين قتلوا في سبيل الله والوطن و الذين لم تصبهم "رصاصة صديقة".
فلسنا بحمد الله نجحد فضلهم *** و جاحد ضاحي الحق يصرعه صرعا
أمام هذا الشتم و السباب الذي تتعرض له بلاد الرجال تاريخا و تراثا، لا شيء يحز في النفس أكثر من هذا الصمت المريب لنخبنا العالمة الفكرية والسياسية. أجبن أخرسهم أم طمع أركسهم أم ملل ويأس أقعسهم أم لامبالاة أصمت آذانهم و ثبطت عزمهم وغيرتهم على هذا الوطن؟ هل هناك خلل في هذه النخبة جعلها تصاب بالخرس أو "ذهان الخوف المرضي".. إلى درجة مهينة مثل ما نراه اليوم من سكوت على هذا الباطل السياسي الذي يطبل له مزمرون دأبوا على العزف والترنم على جثث الشعب الموريتاني.
إذا كانت موريتانيا لم تعرف قبل عهد ولد عبد العزيز، فقد عرفت بصورة مناقضة تماما لصورتها التاريخية النقية الناصعة، إذ عرفت في عهده المشئوم بفضائح تقشعر لها الأبدان، لم تفلح كل الأغطية في سترها، عرفت بأنكر جريمة هي تمزيق المصحف الشريف، عرفت بأخسإ جريمة سب الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم،بأسوأ استهتار وهو حرق أمهات كتب الفقه المالكي، وعرفت بتفشي شتى أنواع الجريمة و الانتحار، وسوء الأخلاق، وانتشار العنصرية البغيضة والقبلية المقيتة.
ثانيا: في الثاني من شهر أغسطس القادم ستقام مراسيم تنصيب الجنرال ولد عبد العزيز رئيسا على موريتانيا لخمس شداد أخر، غصبا و إكراها. "ألا إن طلاق المكره ليس شيئا" كما يقول إمامنا مالك رحمه الله. و لأن نجاح ولد عبد العزيز المزعوم مؤسس على تلفيق و تزوير فاحش لانتخابات هجرها و قاطعها الشعب الموريتاني برمته و أقصي من لوائحها ما يزيد على المليون مواطن فإن أداءه القسم لن يكون سوى يمين غموس و إصرار على الحنث العظيم. و هذا ديدن الحانوتيين. فلن يفعل في هذه المأمورية إلا أشنع و أبشع مما اقترفه في مأموريته السالفة.
ثالثا: إن الجنرال الستيني، الذي يدخل مرحلة الشيخوخة، ما زال يعزف على سن مناوئيه باعتبارهم شيوخا طاعنين في السن.. إن أسوأ آفة يصاب بها رجل ستيني من عمر ولد عبد العزيز هي "الشيخوخة الأخلاقية".. إذ لم يتورع الجنرال الستيني، وهو يصف نفسه برئيس الجمهورية، أن يكيل لخصومه أسوأ السباب والشتائم أمام الأطفال والنساء.. إنه ينظر إلى نفسه ويصف مناوئيه بما في نفسه.. الفساد، التخريب، انعدام الرؤية، ضيق العقل والرؤية، وصغر الحلم الذي لا يتجاوز جيبه، المرقع بالأنانية، والشوفينية والعقد النفسية.
إن الجنرال يحاول إيهام الناس بأن المعارضة انتهت.. والحقيقة أن فرائص الجنرال ترتعد جراء تسييره الكارثي للبلاد، التي باتت مهددة بحرب أهلية جديدة في منطقة تفصل فيها مصادر القرار العالمي إعادة رسم الخرائط وفق المذاهب والأعراق والشرائح.. من "البيرامية الفلامية" في موريتانيا، إلى انفصال جنوب السودان، إلى مشكل أزواد، مرورا ب"بوكو حرام" في نيجريا، إلى "داعش" في العراق.
إن الجنرال ولد عبد العزيز بإصراره على التمسك بالسلطة، وإدارة دفة أكبر من قبضته، إنما يلعب دور "المالكي"، أي التشبث بالسلطة على حساب وحدة البلد.. إنها إقصائية فردية ثمنها ضياع مستقبل أمة.. (بالمناسبة في بعض مسودات التعديل على اتفاقية سايس بيكو المشؤومة، فإن موريتانيا ستقسم إلى خمس دول.. لا قدر الله).
رابعا: إن انتخابات الجنرال الأحادية تسببت في كارثة اجتماعية، فقد تركزت خطاباتها على العنصرية والفئوية والدعوة المقيتة إلى تحطيم قيم التعايش بين فئات مجتمعنا.. إن الجنرال هو من فتح الباب أمام هذه الفوضى التي بدأت ترجمتها على أرض الواقع وفيما تبثه الفضائيات التجارية من خطاب كراهية وعنصرية غير مسبوق في هذه البلاد.. وكانت النتيجة أن ما جرى من تصويت كان "عرقيا" بكل ما تحمل الكلمة من معنى.
إن الجنرال لا يشعر للأسف أن الانتخابات الأحادية التي نظمها كانت الفرصة السانحة للتطرف والرذيلة السياسية و الشرائحية و العرقية.. وكيف لا.. إذ في غياب جو الوطنية والأخلاق وضوابط دولة الدستور و ألقانون يـبرز "المنطق العصاباتي".
إن موريتانيا أمام منعرج خطير جدا، ولا بد من تداركه، وقد آن الأوان، أكثر من أي وقت مضى، لوضع حد لهذا التدهور المتسارع على جميع الأصعدة.
إن العقول التي تفكر بمنطق مهب الريح لا مكان لها في المستقبل، والأيدي التي تفرك عيونها بالطين اللازب لن تؤدي فعلا متقنا و لا منتجا.
في الواحد والعشرين من يونيو جرى اختطاف آخر للشرعية، وللبلد، ولمستقبل الأمة.
إن على النخبة الوطنية، أن تتحرك بسرعة لوضع حد للموت الدولتي المؤذن بخراب الديار.. فمنطق الرجل الأوحد مستحيل الاستمرار.. إنه مثل الشرارة في حقل النفط.
تنبيه
يا أهل هذا المنكب البرزخي الشنقيطي، بلاد الرجال، إن بين أيدينا وعلى أبوابنا لفتنا كالليل المظلم، و يتخطف الناس من حولنا. الشر المستطير يقترب منا رويدا ، إذ كل يوم تنقض، بما
كسبت أيديا بطرا وفسوقا وعصيانا، عروة من عرى هذا الطوق الأمني الذي شيده السلف الصالح بالتقى و الورع و الزهد وطيب المعاش. فالنتب إلى الله جميعا توبة نصوحا قبل انفصام هذه العروة الوثقى و قبل فوات الأوان عسى الله أن يقيل عثرة بلدنا وأن يرفع عنه مقته وغضبه ويصرف عنه جور الحاكم وسوء أهل السوء وزيغ أهل الزيغ و فساد أهل الفساد.
"إن تنتهوا يغفر لكم ما قد سلف و إن تعودوا فقد مضت سنة الأولين".
و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم و هو ولي التوفيق.