في الخامس من تموز (يوليو) الجاري احتفلت الجزائر بالذكرى الثانية والخمسين لاستقلالها عن الاستعمار الفرنسي. وفي الرابع عشر من من هذا الشهر ذاته ستحتفل فرنسا بعيد ثورتها على الملكية في 1789.
وبين الذكريين والاحتفالين، سيل هائل من التاريخ والذكريات والعواطف.. والعُقد، هنا وهناك.
فرنسا وجهت هذه السنة دعوة للجزائر من أجل مشاركة رمزية في عرض عسكري تقليدي يشهده شارع «الشانزيليزيه» سنويا في الرابع عشر من تموز (يوليو) بمشاركة الرئيس الفرنسي وقادة عدة دول، بينها المستعمرات الفرنسية السابقة والدول التي لديها تاريخ مشترك مع فرنسا، كتلك التي شارك مواطنوها في حروب فرنسا والحلفاء خلال القرن الماضي.
في قائمة هذه الدول، لا يوجد أفضل من الجزائر: مستعمرة سابقة، صاحبة تاريخ مشترك مع فرنسا، وصاحبة علاقات جد خاصة معها في الحاضر.
غير أن دعوة الجزائر لمشاركة رمزية أسالت حبراً كثيرا في الجزائر وأقل منه في فرنسا.
والسبب أن البلدين غير قادرين على تجاوز عُـقد الماضي، مثل زوجين انفصلا عن بعضهما، لكن لا أحد منهما استطاع نسيان الآخر أو الاستغناء عنه.
بدأ الجدل حول الدعوة الفرنسية للطرف الجزائري مع شكلها وطريقة إعلانها. بينما أعلنت السلطات الفرنسية أنها وجهتها إلى الجزائر، التزمت السلطات الجزائرية الصمت، لا مؤكدة ولا نافية وجود الدعوة.
صمت يعبّر عن إرباك وعجز عن تحمل المسؤولية تجاه التاريخ والمستقبل والمجتمع. لا شيء يمنع السلطات الجزائرية من الإعلان صراحة أنها تلقت أو لم تتلق الدعوة، وستشارك في الاحتفالات أو لا تشارك. غير انها لم تفعل، كعادتها.
إنها عقدة الماضي العابرة في المستقبل. الإعتراف بوجود دعوة فرنسية يستلزم الرد على سؤال: هل ستلبيها أم لا؟ والجواب، أيًّا كان، سيتطلب جرأة سياسية وصدقا مع الذات ومع المجتمع. وكل هذا غير متوفر لدى السلطات الجزائرية الحاكمة في الوقت الحاضر.
عقدة الجزائر مع تاريخها ليست جديدة. هي فقط تتجدد وتتفرع في كل مرة اكثر. هي موجودة في اللغة والثقافة والتعليم، في العلاقات الاقتصادية الجزائرية مع الخارج، في الميزان التجاري الجزائري مع فرنسا. وتستمر مع علاج الرئيس وعائلته في المستشفيات الفرنسية، مع ما يعنيه ذلك من إطلاع الطرف الفرنسي على أدق اسرار رأس الدولة، لتصل إلى حق مطالبة فرنسا بالاعتراف بماضيها الاستعماري في الجزائر والاعتذار عنه. ومرة أخرى، السلطات الحاكمة في الجزائر لا تمتلك شجاعة مواجهة، ناهيك عن معالجة أيِّ من تفاصيل التاريخ هاته. تفاصيل تجعل الجزائريين عموما يشعرون بالهزيمة والخذلان تجاه فرنسا لأن كل تفاصيل التاريخ في صالحها، باستثناء حرب الاستقلال. ولا تستطيع السلطات الجزائرية مقارعة سلطة فرنسية منتخبة وديمقراطية تستمد جرأتها وشفافيتها من شعبها وهي مُطالَبة بتقديم حسابات لمجتمعها وحده. في المقابل، كل ما تفعله السلطات الجزائرية انها تترك الزمن يمر وتكتفي بإدارة ردود الفعل الداخلية تجاه التاريخ، وكلها هزيلة وعاطفية ومؤقتة لا يـُكتب لها اي عمر.
يبدو واقع الحال في الجزائر كما يلي: الرئيس ماضٍ في ما يراه مفيداً له ولمجده في ما يتعلق بالعلاقات مع فرنسا، والمجتمع وقواه المدنية في واد آخر لا تستطيع ثنيه عن تغيير موقف مهما كان بسيطاً أو خطيراً. ولا تكلف السلطات أو الرئيس نفسه عناء تقديم تفسير صغير عن تصرف او قرار ما يتعلق بتفاصيل التاريخ، وكأن ليس من حق الجزائريين أن يعرفوا او يسألوا أو أن يكون لهم موقف.
في فرنسا أسالت الدعوة حبراً اختلف عن حبر الجزائر. هنا يتعلق الأمر بفئة سياسية واجتماعية محدودة ومعرّفة، هي فئة المنحدرين من أصول جزائرية، سواء كانوا جزائريين اختاروا المستعمر اثناء فترة الاحتلال، أو فرنسيين وُلدوا في الجزائر وغادروها قهرا تاركين وراءهم كل شيء، ولديهم اليوم حنين خاص لها. بالإضافة الى فئة اليمين المتعصب الذي يصطاد في الماء العكر دون أن تكون له قضية واضحة.
تلتقي الجزائر وفرنسا في كون مشاكلهما مع التاريخ، ذات بـُعدين: الأول داخلي مع الذات، والثاني مع الآخر. الجزائر مع الجزائريين أولاً ثم مع فرنسا ثانيا. وفرنسا مع فئة من الفرنسيين أولاً، ثم مع الجزائر ثانياً.
غير أن هناك فرقا بين الجزائر وفرنسا. فرق واضح وكبير. الحرية التي في فرنسا لا وجود لها في الجزائر. ومن يقول حرية يعني قدرة الناس على النقاش والبحث في التاريخ ومساءلة الماضي وغيره. غياب الحرية هذا في الجزائر يجعل تاريخ الجزائر بين 1830 و1962 مشوها ومبتوراً لا يُحظى بثقة واحترام الجزائريين. وهو ما ليس حال الفرنسيين مع تاريخهم.
أيضا، الذين في فرنسا يخوضون في تفاصيل التاريخ، يفعلون بثقة غير موجودة في الجزائر، ربما يستمدونها من ثقتهم في أن سلطات بلادهم تستمع لهم أولاً وتستجيب لهم إذا ما دعت الضرورة. وهو ما لن يحلم به جزائري واحد. يا لنعمة الديمقراطية وتأثيرها اليوم في ماض عمره خمسون ومئة سنة!
كما يختلف الحال من حيث أن الذين يخوضون في تفاصيل التاريخ منظمون هيكلياً ومطالبهم محددة وغير مبعثرة في عمق الماضي.
عدا هذه التفاصيل، الجميع أسرى تاريخ معلّق وعـٌقد ماض يخافونه.