الإلحاد عكسه الاستقامة و يُعرّف لغة بأنه الميل ، ومنه اللحد في القبر إذ سمي لحداً لميله إلى جانب منه ، ويقوم الالحاد على فكرة أساسها إنكار وجود الله الخالق سبحانه وتعالى إذ يدعي الملحدون بأن الكون وجد بلا خالق ، وهناك الالحاد في أسماء الله وصفاته ، والملحد متطاول على الله
ورسوله والعياذ بالله.وإذا كانت كلمة " إلحاد " من العبارات الوافدة و الدخيلة على قاموس وثقافة المجتمع الموريتاني المحافظ ، فقد بات من المسلم به اليوم أن هناك موريتانيين يعتنقون الفكر الالحادي ويعلنون عن أنفسهم صراحة ويروجون لفكرهم الشاذ عبر الشبكات الاجتماعية ، فما موقف الموريتانيين من هذه الشرذمة المنحرفة ؟إذا كان الإلحاد يعني عدم الاستقامة فيبدو أن هناك الحادا وعدم استقامة في تعاطي الموريتانيين مع الملحدين أنفسهم ، إذ اتضح - وبما لا يدع مجالا للشك - البون الشاسع في تعاطي السلطتين السياسية و الروحية وكذا النخب وعامة الناس مع إساءة الشابين الموريتانيين : ولد امخيطير وولد محمد المامي ، مع أن هناك اجماعا تاما على أن هذا الأخير تجاوز في إلحاده وزندقته سلفه بمراحل ، ما يطرح السؤال التالي : هل نحن أمام إلحاد أشراف يستدعي التروي والبحث عن أحسن المخارج وحصر جرم الإلحاد في المجرم أو الملحد نفسه ؛ في مقابل إلحاد أجلاف يستوجب إدانة كافة السُّلط له وتجييش الشارع و استنفار كافة الطاقات وإلباس جرم الإلحاد لذوي المسيء وشريحته بأكملها إذا اقتضى الأمر ؟يبدو الجواب بنعم الأكثر صوابية والأقرب إلى الواقع ، في ضوء التعاطي غير المتكافيء مع الحادثتين ، ففي حالة المسيء الأول ( ولد لمخيطير) رأينا كيف تمت تعبئة الشارع في لمح البصر وكيف رصدت الملايين لمن يأتي برأس المسيء على أسنة الرماح في سابقة هي الاولى من نوعها ، وشاهدنا استقبال رئيس الجمهورية للجموع الغاضبة وسمعنا خُطب الائمة وفتاوى العلماء وقرأنا عشرات المقالات التي تناولت بالتحليل الحادثة من مختلف زواياها ومحاولات البعض الربط بينها عمدا وحراك شريحة لمعلمين المطالب بالعدالة والإنصاف .في حين إتسم التعاطي مع إساءة ولد محمد المامي بكثير من التروي والهدوء ، مع غياب تام لأي موقف رسمي شاجب أو مندد بالحادثة ، بعد أن تم تمرير الخبـر - عمدا - عبر منبر الجامع السعودي حيث إستدعى الإمام ولد لمرابط - بنبرة طغى عليها الهدوء والتسامح - النصوص الفقهية التي تعلي من شأن التربية الدينية والعناية بتنشئة الاولاد ، مذكرا بأن هداية التوفيق إنما هي من اختصاص الله تعالى وحده ، وأما الانبياء وأهل العلم فلا يملكون غير هداية الارشاد ، مستشهدا بالقصص القرآني (قصة نبي الله نوح عليه السلام وابنه ) للإيحاء للمتلقي بأن ذوي المسيء ( أسرة أهل محمد المامي ) إنما مثلهم كمثل نوح عليه السلام لا يضرهم زيغ أو ضلال من ضل من أبنائهم ، وهذا كلام سليم وصحيح إذ ( لا تزر وازرة وزر أخرى ) ، لكن هذا الاستدعاء الموفق للنصوص الفقهية والقصص القرآني غاب أو غُيّب عمدا إبان أزمة المقال المسيء وكان كفيلا - لو أنه تم - بتخفيف الضغط عن أسرة أهل لمخطير التي كادت أن تعصف بها الأحداث ، رغم مسارعتها إلى إدانة المقال وتبرئها من ابنها . لقد اظهرت تلك الأحداث مدى انكشاف ظهره هذه الشريحة وقلة حيلتها وهوانها على الناس ، فلو لم يكن المسيء منحدرا من هذه الشريحة لما تجرأ رجل أعمال موريتاني على رصد مبلغ أربعة ملايين لمن يقتله ويأتي برأسه مرفوعا على أسنة الرماح ، في تحريض صريح على القتل خارج القانون ، والأعجب من ذلك أن الرجل لم يتعرض للاعتقال والمحاكمة بتهمتي التحريض على القتل خارج القانون وتجاوز هيبة الدولة المفترض أنها وحدها المسؤولة عن محاكمة المجرمين وإنزال العقوبة بهم ، إذ لا يمكننا تخيل مثلا أن رجل أعمال سعودي يعرض أمولا علنا لمن يقتل مواطنا سعوديا آخر داخل أراضي المملكة ثم تغض السلطات السعودية الطرف عنه ، لما ينطوي عليه ذلك من تهديد واضح للسلم الاهلي في مجتمع عشائري تماما كمجتمعنا ،كما لا يمكن تخيل حصول ذلك مطلقا في الدولة الغربية الراعية والمنفذة للقوانين .وقبل هاتين الحادثتين رأينا أيضا كيف اندلعت موجة الاحتجاجات الواسعة التي طالبت بمحاكمة وإعدام زعيم حركة " إيرا " بيرامه ولد اعبيدي على خلفية إحراقه كتبا من أمهات الفقه المالكي . وفي ضوء هذه الانتقائية الواضحة أو الازدواجية في المعايير اتجاه أبناء الوطن والواحد والعقيدة الواحدة في وقائع ذات طابع ديني متشابه يبرز السؤال التالي : هل يعقل بأن الصدفة وحدها تقف وراء حالة المدِّ والجَزر هذه في عواطفنا الدينية أم أن هناك سلطة سياسية أو روحية مهيمنة هي التي تضبط ايقاع تلك العواطف ولا تسمح بضخ سوي المقدار المسموح به منها حسب الحال والمقام ؟ ، وإذا كان الجواب هنا بالنفي فثمة من يطرح فرضية أخرى ترى بأن هناك منطقا يجري التأسيس له تمهيدا لجعله دستورا شفهيا غير مكتوب يقضي من بين أمور أخرى بفرض حصانة دينية وسياسية لمكوّن بعينه على حساب بقية المكونات الاخرى .ومهما يكن من أمر فإن أخطر ما في هذه الانتقائية أو الازدواجية في المعايير أنها إذا إستمرت ستعمق ، حتما ، الشرخ ليس بين أبناء الوطن الواحد فحسب ، بل بين أبناء القومية الواحدة ، كما أن من أخطر تداعيات هذه الازدواجية تزحز الثقة في العلماء وهم صفوة هذه الأمة و المفترض فيهم أنهم يدورون مع الحق حيث دار وأن التعاليم الدينية وحدها التي تضبط انفعالاتهم وردات افعالهم إزاء جميع الاحداث والوقائع ... ولعل المستفيد الاكبر من هذه الانتقائية المكشوفة هم أعداء الوحدة الوطنية من جميع الشرائح بما فيها الشريحة المستفيدة من هذا الواقع ، ثم القوى الغربية الباحثة بإستمرار عن المزيد من أوراق الضغط والمساومة لاستغلالها واستخدامها في الأوقات المناسب .إن إحقاق الحق وإقامة العدالة بجميع صورها ، خاصة ما يتعلق منها بتطبيق القانون على الجميع وحتى العدالة في ردات الفعل ، هي خير عاصم من تفكك وحدة الشعوب واندثار الأمم ، أما حين تغيب العدالة بمختلف صورها ، ويسود قانون الغاب ويتغول القوي على الضعيف ، فذلك أقوى مؤشر على زوال الأمم وخراب العمران .. ولله الأمر من قبل ومن بعد .