المنعطف السياسي الخطير الذي ينتظر موريتانيا مع نهاية الفترة الرئاسية الحالية، ومخاطر التفكك المحيطة بنادي المعارضة الموريتانية، وتجارب الحوار السياسي الفاشلة مع الرئيس ولد عبد العزيز، والأسباب التي دفعت بالرئيس الموريتاني إلى بسط يده لحوار دون تابوهات مع أشد معارضيه، وموضوعات أخرى شملها حوار أجراه مندوب «القدس العربي» في موريتانيا مع الوجه السياسي الموريتاني البارز محمد فال ولد بلال الأمين التنفيذي الحالي لمنتدى المعارضة ووزير الخارجية الأسبق.
كان ولد بلال كعادته يرد على أسئلة «القدس العربي» بكلماته المنتقاة التي يختارها بعناية ويزنها، فتمخضت عن ذلك المحاورة التالية:
■ ما هي حسب نظركم وتحليلاتكم الدوافع التي دفعت الرئيس الموريتاني فجأة لمد يد الحوار إليكم؟
□ ليس في الأمر مفاجأة، لقد تعوّدنا على هكذا دعوات للحوار يكون فيها الصوت أكبر من الصورة.. فالرئيس محمد ولد عبد العزيز هو أكثر الناس كلاما عن الحوار، وهو أقلّهم عملا به. وهناك أسباب ودوافع كثيرة وراء دعواته المتكرّرة للحوار، أذكر منها على وجه الخصوص: محاولته التغطية على أصل حكمه الانقلابي، فهو، كما تعلمون، جاء إلى الحكم بانقلاب عسكري أطاح برئيس مدني منتخب في العام 2008، ومنذ ذلك التاريخ وهو يبحثٌ عن «شرعية» مفقودة، ويجري وراء أي فرصة تسمحُ لهُ بتجاوز إعاقة حكمه «الوراثية» وعجزه «الجيني» عن كسب رضا الشعب وقبوله. ولا أعتقد أنّ دعوته الحالية للحوار تختلف كثيرا عن دعواته السابقة وهي تستهدف تلميع صورته والحصول على ما أمكن من تفاهمات سياسية مع المعارضة لحاجة في نفسه، وتحسُّبا لانتهاء فترته الرئاسية الأخيرة بموجب الدستور.
■ كلما اقترب الحوار بينكم مع النظام جاءت عوائق فاعترضته: بم تفسرون هذا؟
□ نفسِّرُ ذلك التعثر بعدم جدّية النظام ومواقفه المتردّدة والارتجالية، فهو بقدر ما يطمع في الحوار…يخافُ من الحوار أيضا، ولذلك، تراهُ يفتعِل المشاكل ويضع العراقيل وتضيق به الأرض كلّما اقتربنا من طاولة الحوار.
■ لديكم تجارب فاشلة في الحوار السياسي مع الرئيس ولد عبد العزيز سببها في الغالب أنكم تريدون أن تنتزعوا منه ما أنجزه عبر صناديق الاقتراع: ما الذي استجد حتى قبلتم بسهولة العودة السيزيفية للحوارات؟
□ صحيح أنّ تجاربنا السابقة مع الرئيس لا تبعث على التفاؤل ولا تدفع إلى الجلوس مرة أخرى معه، لكنّ الفشل هنا لا علاقة له بصناديق الاقتراع، فهذه لا تعني الشيء الكثير في غياب الشفافية والعدالة وتساوي الفرص بين المتنافسين والممارسة الديمقراطية الحقّة، كما هو الحال عندنا. لقد فشلت تجاربنا السابقة كلّها بسبب عدم احترام النظام لقواعد الحوار المتمدّن من جهة، وسرعة تملّصه من نتائج الحوار ومخرجاته من جهة أخرى. هذا ما حصل معه عام 2009 في داكار، وفي عام 2012 وعام 2014 في نواكشوط، إلاّ أنّنا مع ذلك ندرك حاجة الشعب والمجتمع إلى حوار جاد ومسؤول يُفضي إلى توافق وطني يُخرج البلاد من أزماتها المركّبة، ولذلك، دعونا للحوار وذهبنا إليه أكثر من مرّة، وما زلنا ندعو إليه ونؤمنُ به كطريقة مُثلى للعبور بالبلد إلى برّ الأمان في ظل تسارع الأحداث المحيطة به وتشابك خيوطها. وتجدر الإشارة هنا إلى انعقاد جلسة أولية على طريق الحوار جمعت بين وفد المنتدى ووفد الحكومة مؤخرا في قصر المؤتمرات. وقد التأمت هذه الجلسة في ظروف مقبولة واستلم خلالها الطرف الحكومي وثيقة المنتدى حول الممهدات المطلوبة وبنود مشروع الاتفاق الإطاري المقترح من لدن المعارضة. وأكّد الطرفان استعدادهما للتعامل مع القضايا المطروحة بمرونة وحسن نيّة بحثا عن التوافق لمصلحة البلد. هل هو الأمل إذاً يعود إلى الساحة الموريتانية؟ وحدها الجلسات واللقاءات المقبلة تستطيع الإجابة على هذا السؤال.
■ المنتدى يواجه مخاطر في تركيبته أصبحت منظورة، فحزب التكتل رافض للحوار والإسلاميون يغازلون السلطات وحزب قوى التقدم لديه طريقته المعروفة في التعاطي مع الممكن: هل أنتم متفائلون؟
□ أعتقد أنّ تأسيس المنتدى كإطار موسّع ومرنٍ وقادر على أن يستوعب أغلبية أطياف المعارضة هو عمل سياسي رائع جاء في وقته ويؤدّي دورا بارزا. ونحن نعتبر أنّ اختلاف الآراء والمشارب والرؤى في داخله هو عامل قوة وثراء وليس عامل ضعف.. نعم، أنا متفائل بخصوص وحدة المنتدى واستمرار عطائه رغم ما أشرتم إليه من خلافات بداخله، ومع ذلك، لا أستبعدُ في وقت من الأوقات أن تؤدّي الخلافات إلى نوع من التمايز في المواقف وإعادة ترتيب الصفوف كلّما مرّت البلاد في منعطف حاسم جديد، هكذا هي الخريطة السياسية..إنّها دوْما عرضة للتغييّر والحركيّة والتشكّل حسب متغيرات الساحة وما تمليه على الأحزاب من تحالفات وتوجّهات وخطط ، إلخ…
■ الفترة الرئاسية الحالية هي آخر فترة للرئيس الحالي، وستكون موريتانيا في وقت ليس بالبعيد على موعد مع منعطف سياسي كبير بهذه المناسبة: هل يتطلب هذا المنعطف تحضيرات خاصة مبكرة أم أن أوضاع البلد بخير؟
□ تتطلّب المرحلة الراهنة من عُمر موريتانيا أنْ تتوافق القوى السياسية المعنية بحاضر البلاد ومستقبله، على كيفية مجابهة تحدّي العبور من الفترة الرئاسية الحالية إلى الرئاسية المقبلة؛ كما تعلمون، فإنّ الدستور واضح، فهو ينص على أنه لا يحقّ للرئيس الحالي الترشح لخلافة نفسه. وهذا بحد ذاته يعدّ تحدّيا كبيرا في الدول الديمقراطية، وبالأحرى في الدول حديثة العهد بالديمقراطية. إنّنا سنجد أنفسنا أمام حالة دستورية وسياسية غير مسبوقة، وصعبة جدا؛ فإمّا أن يحترم الرئيس مقتضيات الدستور ويخرج من دائرة الترشح والتنافس ويترك البلد يتخبّط بلا مؤسسات حاضنة للجميع، وبلا توافق، ولا تراض، وهذه مصيبة…وإمّا أنْ يُحاول التلاعب بالدستور وتغييره بشكل منفرد والسعي إلى فترة رئاسية ثالثة، وهنا تكون المصيبة أعظم وفي كلتا الحالتين أخشى ما أخشاه أن تتفاقم الأزمة وتخرج الأمور عن السيطرة، لا قدّر الله. فما ينفعنا هو تحقيق معادلة على أساس «شرعية ـ شراكة» بمعنى أنّها تضمن للنظام شرعيته مقابل إشراك المعارضة في تسيير ما تبقّى من الفترة الرئاسية. لذا، أقول وأكرّر بأنّ التوافق هو الحل.
■ ما هو تقييمكم وأنتم وزير خارجية سابق، لتعاطي الدبلوماسية الموريتانية مع دول الجوار ومع ملفات الصحراء وشمال مالي؟
□ أعتقدُ أنّ موريتانيا حقّقت تقدما كبيرا على صعيد أمن الحدود ومحاربة الإرهاب بفضل إعادة تنظيم جيشها وتسليحه ورسم سياسات دفاعية أثبتت نجاعتها. وقد استفادت دبلوماسيتها من ذلك كثيرا، وانطلقت منهُ، واستندت إليه لتسجّل بعض النقاط على مستوى الجوار والإقليم والقارّة. إنّ موقع موريتانيا المتقدم في المنظومة الأمنية على مستوى شريط «الساحل» بالتزامن مع رئاستها الدورية للاتحاد الأفريقي وإخفاقات دول «الربيع العربي»…كلّها عوامل سمحت لموريتانيا بالقيام بأدوار مهمة وفتحت لها أبواب دول عديدة وهيئات ومؤسسات، ومع ذلك، أرى أنّها اعتمدت في المطلق على القوة «الصلبة» ولم تستغِل قدر الكفاية علاقاتها الممتازة وقواها «النّاعمة» لتلعب دورا أماميا في الأزمة المالية، أو على الأقل لتتقاسم الوساطة مع الجزائر الشقيقة. وقد ظهر ذلك جليا في تعثّر التوقيع على اتفاق السلام المبرم في الجزائر بعد رفضه من قِبل أطراف «أزوادية» وازنة مقرّبة من موريتانيا أو هكذا ينظرُ إليها. أمّا عن موضوع الصحراء، فأعتقد أنّ الوقت حان لأن تستيقظ شعوب ودول اتحاد المغرب العربي من سباتها وتضغط على الحكومات وعلى المجتمع الدولي في اتجاه تحريك المياه أو الكثبان الراكدة سبيلا إلى إحراز تقدم في هذا الموضوع. وأقول لكم بوضوح إنّه مهما طال أمد النزاع في الصحراء الغربية ومهما تخاذل المجتمع الدولي في معالجته وتقاعس عن حسمه، فإنّ جذوته ستظل حيّة تحت الرّماد وسيبقى مصدر تهديد لأمن المنطقة كلّها. وبالنظر إلى التقرير المقدّم للأمم المتحدة في الأسابيع الماضية، فإنّ المجتمع الدولي لم يدرك حتى الآن ضرورة الإسراع بمقاربة أممية تنهي هذا الصراع قبل أن تتعقّد الأمور وتتصاعد أكثر فأكثر، وبمعنى آخر، أقول إنّ الدبلوماسية الدولية مدعوة إلى أنْ تسارع الخطى في ملف الصحراء الغربية لجلب منفعة تسوية معقولة قبل أنْ تضيع أو لدرْء ضرر التصعيد قبل أن يقع. وعلى هذا الصعيد، فإن للدبلوماسية الموريتانية دورا كبيرا، آن لها أن تضطلع به وتخرج عن موقف النّأي بالنفس والحياد السلبي وتعتمد سياسات إيجابية تقوم على الاتصال بالأطراف المعنية، ومخاطبتها بخصوص الحلول الممكنة، والوساطة بينها، ومدّ جسور التفاهم، ومؤازرة المجتمع الدولي في بلورة تسوية أممية تستند إلى قرار من مجلس الأمن يتضمن نظام عقوبات لأي طرف لا يلتزم به على غرار ما يجري في بقية بقاع العالم. وأؤكّد هنا على أنّ التحرك الإيجابي في هذا الملف لا يعني أنّ موريتانيا تميل إلى محور على حساب آخر، أو أنّها جزء من محور ضد آخر، بل إنّ محورها هو مصالحها القومية وأفق تحركها هو المنطقة والعالم.
■ وما هو تعليقكم على «عـاصفة الحزم» من حيث مجرياتها وانعكاساتها المحتملة؟
□ كان اليمن بلدا مأزوما، كما هو معلوم، ولكنه رغم ذلك موجود، وظل هذا البلد ملعبا مضطربا تتصارع فيه قوى محلية وإقليمية تارة بالعنف والسلاح، ولكنه رغم ذلك موجود، وكان أهله يحاولون ما استطاعوا لملمة أمورهم عبر حوار داخلي برعاية الأمم المتحدة. حوار صعب ومتعثر، ولكنه رغم ذلك موجود. نعم، كان ذلك قبل «عاصفة الحزم» التي حولته إلى جحيم يتهدّد كيان الدولة ذاتها وسلامة أراضيها ووحدة شعبها وأمن جوارها والمنطقة بأسرها. لقد عصفت «العاصفة» بكل شيء: تراجعت بسببها فرص الحوار وتآكلت شرعية المؤسسات وبدأت الدولة تعجز عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لمواطنيها وفقدت القدرة على احتكار شرعية استخدام القوة داخل أراضيها. ثلاثون يوما من القصف والدمار والحصار، بلا نتيجة تُرجى ولا هدف قابل للإنجاز. لا غالب هناك ولا مغلوب، وما من منتصر ولا مهزوم. والخشية كل الخشية، أن يُسار شيئا فشيئا إلى كارثة إنسانية كبرى وإلى «صَوْمَلَة» اليمن أو «ليبنته» (جعله مثل ليبيا)، وإقحامه في حروب مركّبة يختلطُ فيها الديني والطائفي والداعشي والقاعدي والقومي والقبلي والشمالي والجنوبي، إلخ… وفي هذه الحالة، فإنّ الرابح الأكبر سيكون «القاعدة» وأخواتها…والخاسر لن يكون اليمن وحده بل سيخسر معه الجوار ضمن إعادة رسم خريطة سياسية جديدة للمنطقة على خلفية عالم جديد متعدّد الأقطاب. ولهذه الأسباب، سمّيت ما يجري في اليمن «عاصفة الهدم».. أما وقد تحولت إلى «إعادة الأمل» أعتقد مثل غيري من المراقبين أنّ الطريق إلى «الأمل» يمًرّ حتما بتوقيف الحرب والقصف والحصار فورا وفتح المجال أمام حوار يمني يمني يحظى بمشاركة كل الأطراف المعنية وبرعاية أممية ويكون حوارا مفضيا لحل توافقي
القدس العربي