منذ مدة وأنا أبحث بين ركام المنازل وأشلاء البشر عن فسحة أمل أتنفس في فضائها عبق دين الرحمة والتسامح بعيدا عن رائحة الجثث المتناثرة وأصوات القنابل العبثية والرصاص الطائش والفتاوى الملتهبة .أعود لكتب التاريخ الإسلامي والسيرة النبوية
فأجد أن المسلمين قد نجحوا في ضرب أروع الأمثلة على انسجام أبناء الأمة الواحدة أيام كان النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، لأنه علمهم أن يكونوا جسدا واحدا يتداعى لأعضائه وبنيانا مرصوصا يشد بعضه بعضا.وحين أواصل القراءة تستوقفني لحظات صعبة في تاريخ الأمة الإسلامية ابتعدت فيها عن النموذج النبوي لما ينبغي أن تكون عليه الدولة الإسلامية، غير أنني لم أجد فيما اطلعت عليه مشهدا أكثر تعقيدا ومأساوية من واقعنا الراهن.فحين تتحدث كتب التاريخ والسيرة عن "الصراع" أو "القتال" أو "الجهاد" في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإن الحديث ينصرف تلقائيا إلى الصراع مع الآخر المعتدي على دار الإسلام. فقتال المسالم غير المحارب كان مرفوضا في دولة النبوة فمن باب أولى أن يأذن في قتال من جمعتهم أخوة الدين،!! وكلما لاحت بوادر فتنة لنزعة شيطانية أو لرواسب جاهلية كان الرد الصارم المصدق بالوحي منه صلى الله عليه وسلم "دعوها فإنها منتنة" .."أبدعوى الجاهلية وأنا بينكم"وهكذا دلت النصوص اليقينية قطعية الدلالة والورود على حرمة كل من صدق فيه وصف الإسلام في دمه وماله وعرضه، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه).بينما نلاحظ أن أغلب الأسلحة الإسلامية اليوم إنما توجه إلى صدور مسلمة... في هذا الواقع المعقد كنت أبحث عن أوجه التشابه بين ما أشاهده عبر وسائل الإعلام وما أقرأه عن الدولة الإسلامية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لأعرف أين يجب أن أتموقع؟ فلم أجد وجها للمقارنة إلا بقية أمل وخير في من يتمسكون بثوابت الدين ويؤمنون بضرورة مراعاة مقاصد الشرع، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وينأون بأنفسهم عن استباحة الدم الحرام.فقلت لنفسي هم القوم لا يشقى بهم جليس. نعم هم من يقفون في تلك الفسحة التي أشار لها الحبيب صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: " لا يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا".ذلك فعلا ما بدأت أشعر به وأنا أراقب الجهود الحثيثة لعلم وعالم من علماء الأمة الإسلامية هو فضيلة الشيخ د.عبد الله بن بيه حفظه الله.كنت أستمع لدروس الشيخ ومحاضراته على "اليوتيوب" وكأنني أستمع لحشرجته وأشعر بألمه ومعاناته ثم طالعت كتابه "أمالي الدلالات ومجالي الاختلافات" ففهمت فكره ونهجه وتعززت قناعتي أكثر بأنه مجدد هذا القرن بمطالعة ما كتبه في الاقتصاد وفقه الواقع والأقليات...إلخوعندما بدأ فضيلة الشيخ رحلته الميمونة بحثا عن مسوغات السلم والعافية، بدلاً من مبررات الفتن والحروب الجاهلية عازما أن يكون اطفائيا لا يسأل عمن بدأ - وإنما يحاول أن يطفئ الحريق سالكا طريق السلام في "منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة" عندها قررت أن أسير في ركبه.ويقيني أن القواعد المعلومة التي قامت عليها الدولة الإسلامية في عهد النبوة ستظل الأمل الوحيد للأمة المسلمة، التي أثبت تاريخا أنه بقدر ما تعود الدولة لتلك القواعد والقوانين -تفعيلا- بقدر مـا تصبح الروابط التي تجمع أهل الإسلام ومواطني الدولة الإسلامية أعظم وأكبر من أن تنال منها الخلافات النظرية أو تؤثر فيها نـزعات النفس البشرية والمصالح السياسية .ولا يجد الدارس للتاريخ الإسلامي مشقة كبيرة في الخروج باستنتاج مفاده: أن قوة الأمة الإسلامية وقدرتها على تأدية الدور المطالبة به شرعا تكمن في وحدتها وتماسكها ولذلك نجد أن قوة الخلافة صاحبها تراجع المد البيزنطي في حين تزامن ضعفها مع الاكتساح الصليبي والمغولي لدار الإسلام..فأكبر خدمة يمكن أن نقدمها لأعداء الأمة - إذن - هي أن نفترق ونتعصب للتفرق و التجزئة، وأجزم أن الأمة الإسلامية بما تمتلكه من مقومات الوحدة قادرة على خلق تصالح داخلي قائم على احترام التنوع والاختلاف الفكري والنفسي والاجتماعي لأفرادها، المنسجم مع نواميس الكون .غير أن غياب الحوار كوسيلة لإحياء إمكانية التواصل على المستوى السياسي والفكري بين مختلف القوى في الدولة الإسلامية خلق حالة من رفض حقيقة التنوع الفكري الموجود، والاختلاف في وجهات النظر السياسية.فعدم إيمان بعض القوى الإسلامية بالجلوس على الأرضية المشتركة والحوار الجاد في تحقيق الوحدة الإسلامية، جعل الأمة تبتعد تدريجيا عن مكانها الطبيعي في التفاعل الحضاري وتنصهر في الصراعات الداخلية الأمر الذي قدم للعالم صورة مأساوية عن دين الرحمة والسلام.بينما خلقت الحالات النادرة لهذا الحوار فرصة للتوحد والاصطفاف جنبا إلى جنب لتحقيق المشروع الإسلامي الجامع.ومن الجميل جدا أن كل الفرق الإسلامية على اختلاف مذاهبها ظلت متمسكة بانتمائها لهذا الدين وتلك الرابطة الجامعة فرغم تباينها الواضح اتفقت على أركان الدين الرئيسية :أي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وأن محمدا رسول الله وأركان الإسلام من شهادة وصلاة وزكاة وصوم وحج ..إلخولسائل أن يسأل:أليس في اتفاق تلك الفرق إشارة واضحة على وجود أرضية مشتركة صالحة لزراعة السلم وتعزيزه في أوطاننا ليكون الحصاد أمن ورقي وازدهار؟هنا يمكنني أن أجيب وبضمير مرتاح بعد ما وفقت لحضور الملتقى الثاني لمنتدى تعزيز السلم في دولة الإمارات العربية وليس من رأى كمن سمع !!:بلى وتلك رسالة منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة قرأها الجميع حين كتبت بالخط العريض في لوحة رائعة مدادها :عزة عالم وتواضع أمير وأمل أمة.