بعد حقب من الترنُّح ما زالت موريتانيا ذات العقد الخامس تعيش في مرحلة ما قبل الدولة، إنّها رغم شيخوختها المبكّرة في عصر ما بعد الحداثة ما زالت تترنّح بين الماضي وما يحمله من أفراح وأتراح ومستقبل يصعب التنبؤ بما يحمله للأجيال القادمة من ويلات وحروب.
شاءت الأقدار الإلهية أن يتوارث الأجيال الماضون تركة هذه الرمال المطلّة جنوبا على - ما اصطلح عليه في حقبة مّا- نهر صنهاجة، وغربا على بحر الظلمات، وشرقا وشمالا على الأطلال التائهة في الصحراء، حيث فرض الواقع - حينها - ضرورة التعايش بحكم أنّ ما يجمعهم أكثر مما يفرّقهم، غير أنّ عاديات الزمن ظلّت تمخر بهم عُباب تلك الصحاري بين التصالح تارة والتصادم أخرى حتى قُبيل مجيء الاحتلال الفرنسي اللعين، الذي أورث هو الآخر تركة فرضت عليهم فيما بعدُ أن يعيشوا أعداء بدل من الأخوّة التي فرضتها القيم الإسلامية واستدعتها فيافي وقفار الصحراء.لا شيء حمله معه ذاك الكائن الآتي من وراء البحار صاحب العيون الزرقاء، لهذه الرمال غير الإثارة، بحكم أنّه لم يترك شارعا واحدا مُعبّدا فضلا عن مدرسة أو منشأة صحية يعود الفضل فيها على الساكنة الذين نخر أجسادهم وسحل هويتهم وكرامتهم، واستنزف خيراتهم، وزرع بينهم العداوة والبغضاء.إنّ المجتمع الموريتاني كغيره من شعوب العالم الثالث، تمّت تسويته في إطار الدولة الحديثة على أساس الجغرافيا لا على أساس الهوية والتاريخ، من أجل بقائه قابعا في دياجير أزمة الهوية (اللغة، السيادة، المجتمع) وبهذا الثالوث تشكّل المجتمع في إطار التعدُّدية اللهجية والعرقية، حيث/ الحسانية العربية (للبيظان)، والبولارية (لإفلان)، والسنونكية (للسوننكيه)، والأولوفية (لأولوف)، ولكلّ هؤلاء امتداد للتاريخ والجغرافيا المجاورة، حيث يمتدُّ مجتمع البيظان - بالمفهوم الحسّاني- من الصحراء الغربية وحتى نهر النيجر شرقا، مرورا بالقبائل العربية في أزواد، ويمتدُّ الفولانيون من موريتانيا حتى جمهورية السودان، والأولوفيون للسنغال، والسوننكه لمالي والدول الإفريقية المحيطة بها، مما شكّل أزمة هوية في صميم الدولة الموريتانية، الأمر الذي أحدث انقلابا في مفهوم الدولة العصرية حيث تذوب كلُّ الانتماءات العرقية تحت مظلّتها الجامعة، غير أنّ الأيادي الاستعمارية الخفية استغلّت هذا التنوع العرقي من أجل مصالحها اللا أخلاقية على حساب هذا المجتمع وبقائه في عتبة سلّم الدول الأعلى فقرا والأقلُّ تعليما، كما أنّ البعد الثقافي التراثي الشعبي الإقليمي ظلّ جسرا للتواصل بين هذه الشعوب على حساب هوية الدولة، بدلا من التكاملية التصالحية، كلُّ هذا بسبب الكولونيالية الفرنسية التي تحكّمت في السياسة والاقتصاد والثقافة لدى بعض النخبويين/ الفرانكفونيين. إنّ التعدُّدية العرقية أو اللهجية بحدّ ذاتها ليست أزمة، بحكم أنّنا شاهدنا دولا تحتضن أكثر من شعب ولهجة، يعيش الجميع فيها باحترام ومسؤولية، أمّا أن يستغلّ هذا التنوع لأغراض لا تخدم المفهوم الوطني للدولة، فهذه هي الأزمة، ويجب أن نراجع دواعيها، من أجل تشخيص الخلل البنيوي التركيبي في أزمة الهوية التي انتقلت من مرحلة إلى أخرى ومن فصيل عرقي إلى آخر حتى ظهر تيار لا يحمل لهجة ولا هوية مستقلّة عن المكوّن البيظاني الحسّاني، يعرّفه أنصاره بتيار لحراطين، وهو رغم مشروعية مطالبه إلا أنّه استخدم الكثير من المغالطات التاريخية الشعاراتية المشحونة بالعنف اللفظ، في مفهوم (الاسترقاق)، إذ من المعلوم أنّ هذه الشريحة تمّ فعلا استرقاق بعض من يتقاسمون معها البشرة /العبيد، وهذا ليس خاصا بهذه الشريحة، فهناك قبائل بيظانية تمّ استرقاقها مما جعلها تُمتهن برعي الإبل لصالح الفئة الغالبة، ولم نسمعها تنادي بهذه الأسطوانة وإنّما تصالحت مع المجتمع وذابت فيه دون ضجيج، وحتى البورجوازيون من لحراطين يستعبد البعض منهم الآخر، دون أن نجد من يسلّط الضوء على هذا الاسترقاق/ ولا يعني هذا شرعية ما يقوم به البيظان/ بالمفهوم الخاص، بحكم أنّ القوانين المعمول بها في البلد قد جرّمت مثل هذا، ولا أقول الشرع الذي يتذرّع به البعض/ سلمان الفارسي أنموذجا، في عصر تخلّت فيه الدول العظمى عن هذه الظاهرة واتجهت نحو استرقاق العقول، متناسية الإبادات الثقافية والجنسية وحق التضحية بالآخر من أجل بناء أكبر امبراطورية سياسية واقتصادية وثقافية استعمارية في العالم. ثم إنّ ظاهرة الاسترقاق - كمرحلة تاريخانية - لم تكن من خصائص مجتمع البيظان وحسب، بل إنّ القبائل الزنجية في الحيّز الجغرافي الموريتاني، مازال البعض منها يحتفظ بهذا النظام التراتبي/ حيث لا يساكن الأرقاء أسيادهم ولا يدفنون في مقابرهم، وليس من حقّهم البتة الحديث عن السياسة ولا الشأن العام، وكلُّ من خرج عن هذا النسق التراتبي يطعن في نسبته لأبيه مما يجعله يعاني كوابيس المرارة والألم/ مرتكبا أخفّ الضررين، في الوقت الذي لم نشهد زوبعة حقوقية تجاههم مما يبرهن أنّ المسألة الازدواجية الاسترقاقية هذه لا تخدم حقوق الإنسان/ كإنسان، بقدر ما تخدم أجندة خارجية، تكرّس جهودها من أجل بنية المجتمع الموريتاني وتفكيكه على معايير أجنبية لاعلاقة للمواطن الموريتاني البسيط بها. وإذا نظرنا لحال من يسمون أنفسهم - بالعبيد - ويرفعون تلك الشعارات المشروخة نجدهم يعيشون في رفاهية سياسية واقتصادية وإعلامية واجتماعية، ولا يعانون من شيء غير أنّ النظام الحاكم استبعد البعض منهم وقرّب البعض الآخر وفق رؤيته السياسية للحكم، وهذا ليس خاصا بهم، وإنّما يشمل كلّ المكوّنات الاجتماعية الموريتانية. وإذا افترضنا معاناتهم الشعاراتية، فهل يعاني الأرقاء السابقون من ظلم وإقصاء وتهميش لا يعاني منه أسياد الأمس؟ إنّ الظلم الممارس اليوم لا تعاني منه أقلية بعينها وإنّما يعاني منه الجميع، إذ أنّ الكلّ مُسترق من قبل الرأسماليين الجشعين الذين يسيطرون على السوق ويتحكّمون فيه، مقابل دعهم المطلق للسلطة السياسية في أيّ انتخابات، من أجل أن يطلق لهم العنان في الموارد الاقتصادية، مما انعكس سلبا على المواطنين/البسطاء من جميع الفئات، حيث بلغت نسبة دخل الفرد الموريتاني أدنى مرحلة في الدول العربية لعام 2015م، مما يعني أنّ المسألة الاسترقاقية خاضعة لسلطة الإقطاع/ الخاضعة هي الأخرى للنظام الرأسمالي العالمي الامبريالي الاقطاعي الذي يتحكّم في مصير شعوب العالم الثالث. ومن جهة اللغة/ اللهجة، الرسمية للدولة الموريتانية رغم أنّ الدستور الموريتاني ينصُّ على أنّها العربية، إلا أنّها لم تحظ بمكانتها على المستوى الرسمي، فأغلب المراسلات الحكومية والندوات والورش التفاعلية لا تتمُّ إلا باللغة الاستعمارية/ الفرنسية، مما غيّب شريحة كبيرة من المجتمع تتمسّك بأحقيتها الدستورية باللغة العربية، ولا تحظى- في الأغلب - بغير متابعة البرامج الإذاعية أو التلفزيونية/ الإلهائية، وهذا لا يخصُّ فئة اجتماعية بعينها، وإنّما يشمل المكوّن الزنجي، فهو غالبا لا يفهم حتى اللغة العربية، والسبب هو تخبُّط الإدارة الرسمية التعليمية، بحيث أنشأت أجيالا مضطربة لاهي أتقنت لغة المحتل الفرنسي واكتفت بالتبعية العمياء، ولا هي أتقنت لغتها الدستورية، كلّ هذا من أجل أن تبقى اللغة/ كحاضن للهوية، محلّ جدل بين النخبويين، الأمر الذي ينسحب لا شعوريا على مفهوم الهوية، ومدى أهمّيته كمحدّد لهوية الدولة الموريتانية. وبشيء من التحليل المنطقي، يرجع هذا التضارب إلى الحقبة الاستعمارية التي أرادت أن تنتقم بالتجهيل السياسي الثقافي من أحفاد الذين رفضوا هيمنتها الثقافية، وكأنّها أرادت في عصر الدولة الحديثة أن تتركهم حيارى خاضعين لسلطة الفرانكفونيين/ مُروجي الثقافة الاستعمارية وبائعي الهوية الموريتانية، من أجل بقائهم في مناصب سيادية مفصلية مادية على حساب هوية المجتمع والدولة، ومع كلَّ هذا يتباكى المثقفون الفرانكفونيون من الإقصاء والتهميش وهم الذين يشكّلون 13% من السكان، وهذه النسبة التقريبية هي التي تمثل إجماليي موظفي الدولة الموريتانية مقارنة مع نسبة البطالة.وفي ظلّ التجاذب القومي العروبي والزنجي ضاعت الهوية الموريتانية، وازداد الشرخ بين المكوّن العربي/الحساني، والزنجي/ الثلاثي اتساعا، دون أي فائدة للوطن، بل إنّ الصدام الدامي في أحداث 1989-1987-1983-1981-1966م بين المكوّنين شكّل نقطة تحوُّل في هوية الدولة الموريتانية الحديثة ولم يكن التأثير والتأثر بالخارج ببعيد عن هذا كلّه/ فرنسا والسنغال من جهة، والناصريين والبعثيين من جهة أخرى، ويعود الأمر في هذا إلى المكر السياسي للإدارة الفرنسية الاستعمارية التي لعبت بعقول النخبة الموريتانية في حقبة الاستقلال/الصوري، بحيث تركت الهوية الموريتانية مطاطة، يمكن لأي طرف استغلالها ضدّ الآخر، وحتى الجانب الإسلامي الذي تتبجّح به النخب العروبية - شعاراتيا- لا يمكنها احتكاره، لكننا أخيرا لاحظنا تملُّصا على المستوى السياسي من قبل بعض قيادات النخب الزنجية المهاجرة، والتي اعتبرت الهوية الإسلامية لا يمكنها توحيد المجتمع الموريتاني/ صمبا تام، وهو تحوُّل خطير في المسار التاريخي للقيادة الزنجية الراديكالية والتي لم تصطدم يوما بالهوية الإسلامية. الأمر الذي يعتبر مناقضا لديباجة الدستور الموريتاني/ الإسلام دين الرئيس والدولة، مما يجعلنا نتساءل عن المستفيد من الخطاب؟ لكن من يعرف خفايا الصهيونية والماسونية/ العالمية، لن يجد حرجا في معرفة الجهات المستفيدة والتي تنصُّ في أدبياتها على مثل هذه الاستفزازات من أجل جس نبض الشارع ومعرفة ردّة فعله.وحين نرجع إلى أصل أزمة الهوية اللغوية، نجد النخبة الراديكالية من الزنوج لا تريد غير التبعية العمياء لفرنسا، الأمر الذي يناقض مفهوم الاستقلال ويعتبر طعنة في ظهر آلاف الشهداء الذين قاوموا المحتل الفرنسي على المستوى العسكري والثقافي/ من جميع الفئات الاجتماعية، واللغة العربية التي ينصُّ الدستور على أنّها الرسمية للدولة، هي لغة الهوية الدينية لجميع المكوّنات الاجتماعية، والتنكُّر لها - على سبيل الاستفزاز - تنكُّر للدين وقيمه الحضارية والثقافة التي عاشت في عموم القارة الإفريقية لقرون من الزمن، ثم إنّ الدستور الموريتاني يعترف باللهجات المحلية كلهجات وطنية/ دون إقصاء، وعلى سبيل المحافظة عليها قام الرئيس - السابق- ولد هيدالة بخطوة في صميم المصالحة الوطنية من أجل ردم الهوة الاجتماعية، بإنشاء مدارس لهذه اللهجات، لكنّ النخب الزنجية الراديكالية قامت بتحطيمها معلنة رفضها القاطع لمثل هذا، وأنّها لا تريد غير فرنسة الإدارة الموريتانية، وفي هذا تجني على هوية الأغلبية الناطقة بالعربية/ الحسانية، بل إنّ لغة المحتل الفرنسي في دول الجوار الزنجي على المستوى الرسمي لا تلقى من الترحيب مثل ما في موريتانيا، ففي السنغال المتحدّثون بها نسبتهم 11%من إجمالي السكان والتي فرض الواقع فيها التحدُّث باللهجة الأولوفية/ بحكم الأغلبية، رغم وجود أنواع متعدّدة من الزنوج الناطقين بغير هذه اللهجة، فلماذا الغالبية في موريتانيا تفرض عليها الأقلية لغة استعمارية جاءت من وراء البحار؟ إنّ هذا يدلُّ على ضعف السلطة الحاكمة في تفعيل المواد الدستورية التي هي من صميم الهوية الموريتانية/ اللغة العربية، والتغاضي عن مثل هذا لا يخدم الأقلية الزنجية/ التبعية لفرنسا، فضلا عن الأكثرية/ الحسانية.إنّ المجتمع الموريتاني المتعدّد بفئاته ولهاجاته وتراثه الثقافي، يمكن أن يستغلّ إيجابا لصالح المواطنة والهوية الجامعة، والشواهد التاريخية في التعايش السلمي على هذا بادية للعيان، بحكم المصير المشترك والمحتوم، ولا يمكن لفئة بعينها الاستئثار بالعدالة وموارد الدولة الاقتصادية والسياسية، ومن حق الجميع دون تمييز/ كما ينصُّ الدستور، العيش المشترك القائم على الاحترام والمسؤولية، تحت شجرتها الباسقة، بدلا من إذكاء الطائفية العنصرية، والارتماء في أحضان الامبريالية الفرنسية والأمريكية والتي لا تخدم غير توجُّهاتها السياسية والاقتصادية، والتاريخ شاهد على الإبادات الجماعية في حق الشعوب والتي مورست من قبل هذه الأنظمة، دون رحمة ولا شفقة ولا يمكنها أن تتحول بين عشية وضحاها إلى حمامة سلام، تنشد المحبّة لمن فتكت بآبائهم وأمّهاتهم عبر حقب من تاريخ البشرية الحديث.