أُسْدلَ الستار مساء السبت الفائت على جولة من جولات المرحلة التمهيدية للحوار الوطني وكان مفاجئا للرأي العام الشعبي خروج المتحاورين بتقليد عادة "الحَلْمة" المعروفة في الموروث الشعبي بأنها لا تفارق "لمراحْ" وزادوا عليها بظلم بواح تجلّى في مغالطات فجّة من قبيل استعراض حقوق يعلم الجميع أن القانون يكفلها ولكن الحكومة لا تطبقها فالمطلوب ليس القول بأن القانون يكفل حق كذا أو كذا وإنما المطلوب الفعل والفعل فقط بشواهد لا تقبل من منكر بكسر الكاف إنك
بناءً على ذلك يمكن القول أن جولة السبت كانت شاهدا حيّا على حالة من حالات الشّح الجمهوري أو الظلم البواح في "رپبليك بانانْيىرْ" حيث يَـمـُــن ٌ ماسكو زمام السلطة بأبسط الحقوق على الشعب ويعتبرون "الكلام "مجرد "الكلام" إنجازا أسطوريا عملاقا حتى ولو كان فقط تذكيراً بما هو تحت مستوى الصفر من البديهيات الحقوقية التي يكفلها القانون -لو كان مطبقاً -من هذا المنطلق كانت المفاجأة بأنه وبعد ساعات من النقاش لم يخرج المتحاورون إلا ب "اتفاق " هزيل يتضمن ثلاث مغالطات احتقارية للشعب وللمتحاورين أنفسهم:
المغالطة الأولى تتعلق بحالة هروب إلى الأمام من خلال مفهوم الترحيل الجديد لأهم المواضيع إلى أجل غير مسمى ومن تلك المواضيع موضوع مصير كتيبة الإنقلابات وضرورة إفصاح السيد رئيس الجمهورية عن ممتلكاته تطبيقا لمقتضيات القانون وموضوع الوكالة الوطنية للوثائق المؤمنة وظروف تأمين انتخابات نزيهة وشفافة .... إلخ
بجرة قلم حصل "ترحيل "للمواضيع المهمة على الرغم من أن الشعب الموريتاني إنما ينتظر البت فيها وتناولها بشجاعة من أجل إرساء دعائم دولة القانون في البلد وتوطيد الثقة بين الشعب والحكومة والطمأنينة على استمرارية الدولة الموريتانية وسيرورتها المستقبلية بشفافية تامة -هذا وبدلاً من امتلاك الشجاعة لتناول تلك القضايا بروح وطنية -اختار الوفد الحكومي أن يبرهن من جديد على عادته في الهروب الى أمام.
( la fuite en avant) ورسكلة سياسية التأجيل ( la procrastination) لدرجة أن الأمر صار تقليدا من تقاليد المأمورية تماما كما هو الحال بعادة الترحيل الذي انتقل هذه المرة من الحيّز التخطيطي /العشوائي إلى حيّز الممارسة السياسية وبات قاب قوسين أو أدنى من التحول إلى رمز في الذاكرة الجمعية. بالمناسبة مصطلح الترحيل يذكّرنا بمعاناة أهل الكزرة من ظاهرة التمدد الأفقي للعاصمة وفي هذا الملف من المؤسف حقيقة أن الحكومة توهم الشعبَ بأنها تحارب التقري العشوائي داخل البلاد في حين أنها تشجع التمدد الأفقي لمدينة انواكشوط وتقوم به نهارا جهارا في أطراف العاصمة ثم تتشدق به أبواقها كمنجز من المنجزات العملاقة متناسية أوزاره وتكاليفه على ميزانية الدولة وجيوب المواطنين المنهكة بصعوبة التنقل بين أطراف عاصمة على قلة مرافقها تبقى متركزة في مقاطعة تفرغ زينة وعلى أهل "الترحيل" السلام.
المغالطة الثانية -التي تمخـّض عنها حوار السبت تجلّتْ في اجترار الــمـن بفتح الوظائف العمومية أمام الكفاءات الوطنية المعارضة بكسر الراء وكذا فتح باب الصفقات العمومية أمام رجال الأعمال المعارضين وهذا نوع غير جديد من موجبات "الترشيخ " بالمعنى الحساني للكلمة فكمْ وكمْ من حقوق يكفلها القانون ولكن ضن ّ ويضن ُّبها النظام على مستحقيها وأبقاها ومازال يبقيها حبراً على ورق؟ هنا أعتقد أنه كان على وفد المعارضة أن يقول للوفد الحكومي "رشَّخْتْ وانفرطْ عاجكْ" لأنه حتى "الذئب الّي تل ولاته" يعرف أن تلك حقوق لكل مواطني موريتانيا لكنها للأسف حقوق مهضومة وما زالت مهضومة والمطلوب ليس القول بأنها حقوق يكفلها القانون وإنما المطلوب هو تطبيقها بجد على أرض الواقع .
المغالطة الثالثة يتعلق الأمر هنا بما قال الوفد الحكومي بأنه قبول التعاطي مع مبدأ نفاذ أحزاب المعارضة إلى وسائل الإعلام العمومي بعدل وإنصاف وهذا وعد ٌ كان قد ظهر من قبلٌ وكثيراً ما يلوّح به ويتجدد ثم لا يلبث أن يتبخر قبل أن يجف حبر محضر الإجتماع !
ولكن منطقياً دعونا نتساءل كيف يحق للطرف الحكومي أن يتناسى ويتجاهل باستخفاف حقيقة أن أحزاب المعارضة كجزء من الشعب الموريتاني ما كان يجوز أصلا ً أن تُحْرَم من النفاذ الى وسائط الإعلام العمومي من تلفزة موريتانيا وإذاعة موريتانيا الجميع وليست موريتانيا الموالاة فقط.
إن نفاذ أحزاب المعارضة الوطنية إلى الإعلام العمومي هو حق تحت مستوى الصفر من البديهيات القانونية فكيف تستسيغ الحكومة المنع منه كحق ثم تتبجح بأنها ستتعاطى معه بعد ساعات من النقاش إذا لم تكن هذه مغالطة فجة من صميم الظلم البواح فماذا تكون؟
بالمحصلة يمكن القول أن حوار السبت لم ينتج عنه إلا ظهور مصطلح ال "ترحيل" من جديد كنموذج لسياسة الهروب إلى الأمام .. فمن ترحيل الگزرات انتقلنا إلى "ترحيل" أهم المواضيع المطروحة على طاولة الجمهورية في محاولة جديدة لمغالطة الرأي العام ولكن حبل المغالطات قصير.