حجّ هشام بن عبد الملك يوما، فطاف بالبيت وجهد أن يصل إلى الحجر الأسود ليستلمه، فلم يقدر على ذلك لكثرة الزحام، فنُصب له كرسي وجلس عليه ينظر إلى الناس، ومعه جماعة من أعيان الشام.
فبينما هو كذلك إذ أقبل زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب
رضي الله عنه فطاف بالبيت.
فلما انتهى إلى الحجر تنحّى له الناس حتى استلم الحجر، فقال رجل من أهل الشام لهشام :
مَنْ هذا الذي هابه الناس هذه الهيبة؟
فقال هشام : لا أعرفه، مخافة أن يرغب فيه أهل الشام .
وكان الفرزدق حاضرًا , فقال :
أنا أعرفه، ثم اندفع فأنشد قصيدته المعروفة :
ياسائلي أين حل الجود والكرم؟ ***
عندي بيان إذا طلابه قدمواهذا الذي تعرفُ البطحاءُ وطأته ***
والبيـتُ يـعرفهُ والحِـلُّ والحرمُهذا ابن خيـر عباد الله كُـلِّـهمُ ***
هذا التـقيّ النـقيُّ الطاهرُ العلمُ.تذكرت هذه القصة وأنا أتصفح بعض التدوينات الساخرة التي سطرتها أناملُ، مجهولة في باب الابتداء والخبر، نكرة في بابي النداء والتعريف، على وزن متنهى الجموع في باب "ما لا ينصرف" يتسائل أصحابها متهكمين عن المستوى الدراسي الذي حصل عليه الشيخ العلامة محمد الحسن ولد الددو، وعن الجامعة التي قرأ فيها، وعن الإضافة التي قدمها للساحة العلمية، وكأن القوم يعيشون على كوكب آخر غير الكوكب الذي ملأه الشيخ بدروسه ومحاضراته، وطاف مشارقه ومغاربه داعيا إلى الله ومرشدا إلى المحجة البيضاء، مؤديا بذلك الحق الذي جعله الله لعامة الأمة على علمائها، الأمر الذي جعل قلوب ملايين المسلمين في شتى بقاع العالم تظل معلقة بحب الشيخ، مشغوفة بتوجيهاته، متلهفة للمفاهيم التي يقدمها حلا لمشكلات العصر ومساهمة في ربط الشريعة بالواقع المعيشي للناس...
وفي تجاهل لذلك كله جاءت تلك التدوينات على خلفية فتوى الشيخ التي ذكر فيها عدم جواز ساعة الاتصالات الهاتفية متكئا في ذلك على حقه كعالم مجتهد أمام حادثة ليس في خصوصها نص صحيح صريح، وهي فتوى لم يوافقه عليها بعض كبار علماء البلد مستندين في ذلك على المُتَّكَإ ذاته...
ولا شك أن القولين مقبولان ماداما صادرين ممن هم أهل للفتوى والاجتهاد في المسائل الظنية، ولو لم يكن الأمر كذلك لما وجدنا في الشريعة مذاهب متعددة الاتجاهات والآراء، متحدة الأصول والمصادر، مؤصِّلة لمشروعية الاختلاف بنصوص قطعية وقواعد جلية تجعل الناظر المتبصر يُسَلِّم لشيخ الإسلام بن تيمية قاعدته في الباب "لا إنكار في مسائل الخلاف...
" أو"لا إنكار في مسائل الاجتهاد" في عبارة آخرين...
صحيح أن العصمة للأنباء وحدهم وأن كل قائل يؤخذ من قوله ويرد إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم ؛ لكن ذلك لا يبرر القفز على مكانة العلماء واتخاذ أقوالهم وآرائهم التي لا توافق الأهواء هدفا تسلط عليه سهام البائسين، ومطيةً تصطاد من خلالها النفوس الدنيئة في المياه العكرة...
فأقوال العلماء أقوال العلماء، ليس لغيرهم عليها سلطان ولا لسواهم إليها سبيل، لكن الكتابة على جدران العالم الأزرق بما يتيحه من حرية فردية في الكتابة وما يترتب على ذلك من تعليقات وإعجابات تُنسي كثيرا من المدونين أنفسهم،فتسول لهم القدرة على محاكمة العظماء وتصويب أقوالهم، بل تحملهم على الطعن في وجودهم والتساؤل عن مكانتهم وما قدموه من مؤلفات وأعمال علمية للأمة ...
ولا غرابة، فعلى الجدران ذاتها وجد الملحدون تحت وطأة شغف التعليقات متنفسا للتساؤل عن الذات الإلهية، وفُسحةً لسب الأنبياء وصفوة الله من خلقه...
فلا غرابة إذا أن يجد آخرون في ذلك العالم زاوية يختفون فيها وراء أسماء مستعارة ووجوه مجهولة للتساؤل عن مكانة رمز من رموز الأمة وعَلَم من أعلامها، وهي تساؤلات لن يجد واضعها مقالا أبلغ في الإجابة من قول الشاعر:
ما ضر الورود وما عليها ... إذا المزكوم لم يطعم شذاها.، أو قول الآخر :
ما ضر شمس الضحى في الأفق ساطعة ...
ألا يرى نورها من ليس ذا بصر....
فالتدوين على هذه الطريقة يجاب صاحبه بعد أن يتمايل في رقصه مشرقا ومغربا على طريقة الفرزدق :
وليس قولك من هذا بضائره *** العرب تعرف من أنكرت والعجم.