قبل مناقشة الموضوع يجدر بنا أن نصحح بعض الأخطاء الشائعة والتى ينطلق منها البعض عن قصد أو غير قصد, فقد ألقيت محاضرات ووضعت بحوث وألفت كتب في هذا الموضوع لكن حدثت مغالطات في أكثر تلك الكتابات، التي يكتبها بعضهم عن قصد، ويسكت عنها البعض الآخر
عن قصور!!...
تصويب حول بعض الأخطاء الشائعة:
ولعل ما يستحق الذكر هنا تلك الملاحظة الذكية التي ذكرها الدكتور محمد عايد الجابري في مقال له(3) بعنوان:
(حوار الحضارات أية مصداقية؟)،بأن هذا لموضوع يرد تارة تحت عنوان (حوار الحضارات)، وأخرى باستعمال كلمة (ثقافة) بدل كلمة (حضارة) مشيرا أنه وبغض النظر عن الفرق الذي يمكن أن يقام بين الكلمتين، وهو فرق يختلف من لغة إلى أخرى، فإن اللافت للانتباه حقا هو التركيز، في العالم الغربي كما في العالم الإسلامي، على موضوع معين، تحت عنوان (الإسلام وحوار الحضارات)، حتى غدا هذا الموضوع وكأنه وحده هو المقصود بهذا الحوار).
مضيفا أنه من المفروض أن يكون مجرد واحد من الموضوعات التي يجب أن يشملها الحوار، متسائلا:
لما الإسلام بالضبط؟
وما المقصود هنا (بالإسلام) ولماذا لم نسمع عن ندوة أو ندوات حول (المسيحية وحوار الحضارات) أو (اليهودية وحوار الحضارات).
أو البوذية، أو الهندوسية أو غير هذه من الديانات ؟
مبينا أن هذا التخصيص الذي يصرف عبارة (حوار الحضارات) إلى دين واحد، يحمل على الشك في مدى الموضوعية.
والتجرد اللذين تطرح بهما هذه المسألة ويريد الكاتب أن يقول:
أن الكتاب الغربيين الذين يروجون لمقولة (صراع الحضارات) يضعون كمقابل («الغرب» (وحضارة الغرب).
ليس (حضارة الإسلام) أو الحضارة الإسلامية)، بل الإسلام بدون تخصيص وهذا ما جعل هذا الطرح يضع (الغرب) وهو مصطلح جغرافي ومفهوم ثقافي حضاري في مقابل (الإسلام) الذي هو الدين.
لنضع هذا الكلام جانبا ولنعرض لبعض الحقائق التاريخية لنعرف مدى مصداقية كل من القولين؛ يعترف الغرب بأن الحضارة اليونانية قد انتقلت إليهم عن طريق الحضارة العربية الإسلامية وأن معرفتهم بالحضارة الفارسية والهندية تدين بالكثير للعرب والمسلمين فكيف حصل هذا الانتقال ؟
وكيف صمدت الحضارة الإسلامية أمام تلك المنافسة الشرسة بين الثقافة الفارسية والرومانية ؟
رغم أنها كانت تدور داخلها، وما مدى مصداقية تجريد الغرب الآن للدين الإسلامي من حضارته؟!!
إن من يقرأ تاريخ الحضارات كثيرا ما يصادفه مصطلح الشعوبية وما هي إلا( نتاج تلاقح بين الحضارة الفارسية والعربية الإسلامية وقد شجع جو الحوار الثقافي الحضاري، الذي ساد فيها، المتخصصين الذين كانوا ذوي ميول يونانية إلى إبراز مآثر الحضارة اليونانية، فدخلوا في حوار تنافسي مع المتخصصين ذوي الميول الفارسية. وهكذا جرى داخل الحضارة العربية الإسلامية حوار تنافسي بين ثقافتين الفارسية واليونانية الشيء الذي حفز ذوي الثقافة العربية الإسلامية إلى الالتحاق بميدان المنافسة، فأبرزوا مآثر العرب ومناقب الإسلام مع الاعتراف للحضارات الأخرى بفضلها، الشيء الذي كرس النسبية في التفكير الحضاري في الفكر العربي الإسلامي، وخفف إلى حد كبير من التمركز حول الذات في هذا الفكر(4).
ولما كان أساس الحضارة الإسلامية فكريا، لذلك كانت حضارته مستقلة كاملة ذات دستور شامل مجرد، يختلف اختلافا جذريا عن مكونات الحضارة الغربية، مثلما اختلف جذريا مع الحضارات القديمة اليونانية والرومانية والهندية.
وإذا كان أساس الحضارة الإسلامية هو الفكر فإن الإسلام لا يعادي العلم الذي هو طريق الحضارة.
ولا يعادي القوة السياسية والعسكرية لأنها أداة ومظهر من مظاهر الحضارة.
والإسلام بهذا الشمول يضع المنهج الملائم والسليم، والمقومات الأساسية لقيام حضارة إسلامية قائمة على الفكر الذي هو جماع كل مظاهر الحضارات، حتى يكون أساسها قويا متينا لذلك فإن حضارة الإسلام باقية متجددة، لا يصيبها الشلل أو تعتريها الشيخوخة(5).
ولأن الفكر أساس حضارة الإسلام لذا فإن الثقافة الإسلامية هي إحدى مستلزمات هذا الفكر وعليه يكون الحق مع ملاحظة الدكتور الجابري ويكون الطرح الجديد على الشكل التالي :
(الحضارة الغربية) مقابل (الحضارة الإسلامية).
ولعل أكثر الأخطاء التي وردت في بحوث من كتب عن هذه المواضيع هو عدم انتباههم للمنطلق الخاطئ الذي لم يتقيد بالملاحظة السالفة الذكر..
هذا وتقيدا بهذه الملاحظة المهمة والغير مسبوقة, سنحاول في بحثنا هذا أن نبرز هذه المقارنة في شكل شمولي وأن تقارب الحضارة كنسق كلي، فنصفها بوصف جامع يحدد عقليتها ونمط رؤيتها للوجود!!
هذا ما نحاول الإجابة عليه معتمدين على أهم ما كتب في هذا الموضوع, أول ما نطالع في هذا المجال ذلك المقال المهم الموسوم بـ:
الحداثة وقلب معنى الإنسان لكاتبه:الطيب بوعزة(6).
يحاول الكاتب أن يبني دلالة الإنسان في النسق الحضاري الغربي مع استحضار أصوله الفلسفية القديمة ومقارنته بالنسق الحضاري الإسلامي وفي سياق المقارنة بين النسقين الحضاريين الغربي والإسلامي يتناول الكاتب بالتحليل والمقارنة نموذجين سرديين هامين هما قصتا (روبنسون كروزو) لدانيال ديفوا و حي ابن يقظان (لابن الطفيل).
مستنتجا التمايز بين العقلين الغربي والشرقي، عقل يغوص في المادة ويغرق فيها فينسى ذاته وينسى سؤاله الكينونة، وعقل يتشوق إلى ما وراء وينزع نحو تأمله.
هذا ولأهمية هذا المقال سنحاول أن نتناوله بشيء من التفصيل:
كثيرة هي الدراسات التي تناولت موضوع النسق الحضاري الغربي سواء بقصد نقده واستهجانه أو بقصد تبجيله والإعلاء من شأنه لكننا نريد في هذا الكتاب أن نتناول النسق الحضاري الغربي في صيغة مقارنة للنسق الحضاري الإسلامي من خلال مقاربة مفاهيمية تروم تحديد طبيعة النظرة إلى الكائن الإنساني في كلا النسقين؛الحداثة وقلب معنى الإنسان:
قام العقل الغربي الحداثي بقلب دلالي لمعنى ماهية الإنسان من الماهية العاقلة إلى الماهية المالكة، بالمدلول الاقتصادي المادي للتملك.
إذ تعد مقولة الإنسان كائن اقتصادي (Homo Economicus) مرتكزا نظريا أساسيا للنمط الثقافي الحداثي بدءا من لحظة استوائه في نمط الاجتماع الرأسمالي.
فهذه المقولة ليست مجرد محدد نظري لمفهوم الإنسان من حيث بعده الاقتصادي المادي، ولا هي مجرد مبدأ لتأسيس النظرية الاقتصادية الرأسمالية، بل إن تلك المقولة هي نقطة الانطلاق لبناء رؤية فلسفية عامة تتعلق بنوع النظرة إلى ماهية الكينونة الإنسانية ككل، وهي تعبير عن قلب دلالي جذري للمقولة القديمة المحددة للإنسان بوصفه كائنا عاقلا تتحدد ماهيته في التفكير (Homo Sapiens).
كما أنها في أبعادها الغائية تنتهي إلى توكيد نمط الرؤية المادية للإنسان، رؤية أصبحت في النسق الثقافي الحداثي ومنظومته المجتمعية تعبيرا عن أسلوب في العيش وأسلوب في التفكير على حد السواء.
بل يحفز أن نقول: إنها ما تجسدت كنمط عيش إلا لأنها نمط تفكير ابتداء.
كما أن هذه الرؤية تتحكم في المنظور الثقافي الغربي، رغم تعدد واختلاف توجهاته الفلسفية، حيث استحالت إلى أنموذج نظري شارط لعملية إدراك الوجود الإنساني وتحديدا احتياجاته، ولذلك فهي تتمظهر في مختلف نتاجات الوعي الأوربي فَنّاً كان هذا النتاج أو فلسفة أو معمارا بنائيا، هذا فضلا عن التمظهر في القيم الناظمة للسلوك الاقتصادي ويرى الكاتب أن لهذا المنظور الاقتصادي المادي في تحديد الإنسان جذورا في الخلفية الثقافية الغربية، وليس مرتبطا فقط بظهور نمط المجتمع الصناعي وما رافقه وطرأ له من رؤى فلسفية ليبرالية.
مستدلا على ذلك أنه رغم التناقض الظاهري بين المشروع الليبرالي الرأسمالي والمشروع الاشتراكي الماركسي، فإن أساسها مشترك ومتماثل، وهو هذا النمط المحدد للنظرة إلى الكائن الإنساني بوصفه "حيوانا اقتصاديا" !
وهذا ما جعله يعد أحد مكونات الشبكة الإدراكية المحددة لرؤية الوعي الغربي إلى ذاته وإلى الوجود من حوله، لأنه يراها شبكة ماثلة في مختلف نظمه وأنساقه الثقافية على اختلافها.
وحاول الكاتب في جانب من فكره ودراسته....يتواصل....