في وقت غير قريب (منتصف الثمانينات)،وعندما كنا طلابا في الثانوية ،التحقنا بالإيديولوجية العربية الثورية ،وكانت –وقتها – مُهيمنة علي عقول أغلب الطلبة، والمدرسين في الثانويات، والإعداديات ، ولم نكن ندرك معني ذلك الانتماء ، ولا مغزاه ،لكنها "الموضة الفكرية الشبابية "،
والوعي العربي السائد ،وقد جابهنا في سبيل ذلك الموقف؛صراعات فكرية، وثقافية مع تيارات مُشابهة ،ومُنافسة :(قومية، وإسلامية ،وماركسية). وتشكل لدينا وعي سياسي تجسد في نضال متواصل داخل أقبية التنظيمات السرية التي تعرضت لمضايقات ،وضغوط ،ومتابعات من الأنظمة العسكرية – حينها- .وانتهت التجربة بتكشف حقائق الإيديولوجيات العربية ،وعمالة بعضها للخارج،وتوظيف قادتها لتضحيات معتنقيها. إلا أن مرحلة التسعينات حملت إلينا التجربة الديمقراطية الأكثر ارتباطا بالمسؤولية الوطنية ،والقناعة السياسية الموضوعية من خلال تأسيس الأحزاب ،والارتباط المباشر بالأحداث ،والأشخاص ..ولكن كيف أعادتنا الديمقراطية من جديد إلي مربع التستر، والتخفي خلف السراب؟ وهل وقعت الأحزاب في فخ الإيديولوجيات؟
أعتقد أن التجربة السياسية التي قادتها الإيديولوجيات العالمية ، شهدت انتكاسة كبيرة مع انتهاء الحرب الباردة ،وظهر جليا أن عوامل خارجية كانت وراء انتشارها، وتحكمها في عقول الشباب ، ومع انهيار الإتحاد السوفيتي،وسقوط جدار برليف ،وانتصار الرأسمالية الغربية، وتحكم الولايات المتحدة الأمريكية ، دخل العالم عصر الديمقراطية الغربية التي انتقلت بسرعة فائقة إلي بلدان العالم الثالث ،وتملكت عقول أجياله ،وأبهرت شعوبه وتلقفتها نخبه،وتدافعت الأنظمة إلي التهافت خلف أسوارها واقتفاء أثرها ، والتمسك بجميع مفرداتها ، والنسج علي منوالها ..وهكذا وجدنا جميعا أنفسنا نلهث خلف مفهوم متغير، وغير محدد ..كانت تجربة الأحزاب الديمقراطية في إفريقيا والعالم العربي قد أخذت نموذجها من وحي التبعية للغرب ،والنزول عند رغبة القوة العظمي في التمكين للثقافة السياسية الجديدة ، التي أصبحت تمثل إيديولوجية العالم ...لكننا نعترف للإيديولوجية الوافدة بأنها فتحت الباب واسعا أمام مشاركة الشعوب في صياغة المشهد السياسي، وفرضت علي الأنظمة العسكرية خلع البذلة ،وتنحية النياشين ،والظهور بالمظهر المدني ، وممارسة لعبة الانتخاب ،واختيار من يشاركها اللعب،ويوفر لها فرصا متكررة في الفوز عليه ، مقابل مكاسب لم يكن ليحصل عليها لو أن اللعبة جرت بمعايير ها الأصلية . وتكونت أحزاب أغلبها لهذا الغرض وقليل منها حاول أن يتأسس علي وعي ديمقراطي صحيح ، لكن أحزاب الوعي واجهت نفس الضغوط ،والحصار، والتضييق الذي تعرضت له منظمات الوعي السابقة ، وقد صرف ذلك هذه الأحزاب عن أهدافها الإستراتيجية ، وفرض عليها التقوقع داخل أجندة ضيقة يحددها رئيس الحزب أو مالكه –علي الأصح- فلم توجد أحزاب مؤسسية بالمعني الديمقراطي بدليل أننا لم نر حزبا واحدا من أحزاب الوعي يتيح في مؤتمراته مجرد الفرصة للتنافس الحقيقي مع "الرئيس الرمز" ،ولم نشاهد مراجعة جادة للبرامج والأطروحات السياسية ،ولم نسمع أن حزبا يعترف بأخطائه – علي كثرتها-صحيح أن أحزاب الوعي في بلادنا تنقسم إلي ثلاثة أنواع:- أحزاب إيديولوجية :هي الأكثر مؤسسية والأقوى بنية تنظيمية ،والأقدر علي الاستمرار نتيجة منابعها الفكرية ،وهي أساسا أحزاب:(تواصل بمرجعيته الإسلامية، اتحاد قوي التقدم بمرجعيته اليسارية ،والتحالف الشعبي ،والمستقبل ،وحزب صار، وحزب حاميدو بابا بمرجعياتها العرقية .......).- أحزاب الرموز وهي أحزاب سياسية تأسست لدعم مرشح بارز، أو شخصية وطنية لها وزن اجتماعي ،أو اقتصادي ،أو حائز علي مركز سابق في الدولة ومن أمثلتها أحزاب:( تكتل القوي الديمقراطية الوريث لاتحاد القوي الديمقراطية –عهد جديد- والذي يدعم الزعيم أحمد ولد داداه، وحاتم الذي يدعم الزعيم صالح ولد حننا ،والإتحاد من أجل الجمهورية الذي يدعم الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز، والوئام الذي يدعم الوزير السابق بيجل ولد هميد ...وهلم جر.)- أحزاب الحقائب : وهي أحزاب منظمات يؤسسها باستمرار تجار، وسماسرة يمارسون من خلالها البيع ،والشراء، وهي أشبه بدكاكين صغيرة منتشرة في كل البلاد تظهر، وتتكاثر في كل موسم انتخابي،أو تأزم سياسي ،أو انقلاب عسكري، وتختفي بعد حصول أصحابها علي منافع من الدولة، أو الأشخاص ..ولاحاجة لنا في ذكر أحد هؤلاء، فلعل "ترك العلامة له علامة ".إن ما أدركته أخيرا هو أننا وقعنا في ذات المأزق السياسي الذي أعقب سقوط الإيديولوجيات العربية ،وظهور حقائقها ،وأهدافها ،والمستفيدين منها ،,,فلم يعد النضال ممكنا من داخل أحزاب الرموز – وهي ماوقع عليه اختياري سابقا - لأنه لا أمل في تحولها إلي أحزاب مؤسسية حقيقية (لعوامل كثيرة يرتبط بعضها بالصراع مع النظام) ،ولاسبيل لإقناع القائمين علي تلك الأحزاب بالعودة إلي الأصل والتوحد خلف الأهداف ،وبناء المؤسسات الحزبية بدل التوزع بين أشخاص لهم مكانتهم ،لكن "الحزب هو ما يبقي بعد مؤسسه" وليس مقبولا أن يستمر توريث الأحزاب (كما حصل مع الناه من مكناس) وهو نفس المصير الذي ينتظر أحزاب الرموز، ولابد من تنبيههم علي الأمر ليصححوا وجهة أحزابهم- إذا هم أرادوا لها بالفعل أن تكون مشاريع للوعي- وليس "أملاكا شخصية" ...إن أحزاب الوعي الإيديولوجي- في نظري- تمثل نقطة مضيئة من خلال وعيها المؤسسي، وطموحها السياسي، ولكنها تعاني مشكلة الانتماء المزدوج بين (التيار المرجعي ،والتوجه الديمقراطي )،وتتنازع داخلها التيارات المحافظة ،والمجددة ،مما يجعل قدرتها علي الانفتاح علي المثقفين من كل المشارب لاتزال ضعيفة ..لقد قررت -بناء علي هذا التوصيف- أن أبقي خارج الإطار الحزبي مع الحرص الشديد علي المساهمة في إنضاج التجربة الديمقراطية ،والانخراط في صفوف العمل المعارض باعتباره القناعة الحقيقية ،الواعية ، وأنا أري مع المفكر المصري: فهمي اهو يدي (أن المعارضة في الإسلام -لاحظوا أنه لم يقل في الديمقراطية –ليست حقا فقط ، ولكنها واجب ،وتكليف شرعي أيضا)....