لا أعرف بالتحديد كيف عاد بي شريط ذاكرتي المتعب هذه الأيام إلى استحضار مشاهد مضحكة من الفيلم الكوميدي المصري " طباخ الريس " للمخرج سعيد حامد وبطولة طلعت زكرياء ، خالد زكي و داليا مصطفى و - لطفي لبيب - ، لماذا أفردت إسم الممثل لطفي لبيب بوضعه بين عارضتين ؟
الجواب لن تنتظره طويلا ، لأنه بكل بساطة هو مربط الفرس كما يقال.
إرتبط في ذهني إسم " لطفي لبيب " بمشهد جميل حينما يطلب من مساعديه أن يخبروا المواطنين أن النظر إلى الشمس في ذلك اليوم مسألة مضرة بالنظر ، وعليهم ألاّ يخرجوا من بيوتهم لألا يمرضوا، كم كان ذلك المشهد ممعنا في السخرية من المواطنين ومعبرا عن فن لا يتقنه إلا القليلون، فن التزلف والنفاق أقصد!
، كان ذلك محاولة لكي لا يطلع " الريس خالد زكي " على أحوال الرعية، مع ذلك يحدث أن يقابل من سيصبح بعدها طباخه المفضل وناقل أحوال الرعية في غفلة من حازم " لطفي لبيب " الذي سيسعى جاهدا لصرفه وتعيين آخر مكانه، لن أطيل عليكم لأن الفلم على اليوتيوب ويمكنكم متابعته بكل تأكيد.شتان ما بين دور الطباخ في الفيلم ودور " الطباخين " في الواقع الموريتاني ، الذين هم الأطر و كوادر المدينة !
شتان ما بين من ينقل معاناة المواطنين ومن يحاول جاهدا لكي لا تظهر معاناتهم حتى ولو كلفه ذلك صرف أمواله الخاصة، يا لها من معادلة لا يمكن أن تحل!
إنهم لا يقولون لهم الزموا بيوتكم واحذروا الشمس الضارة، إنهم – على العكس من ذلك - يقولون لهم قفوا طوابير في الشمس الحارقة وانتظروا أن يجود عليكم " الجنرال " بلمسة خفيفة من يده التي تتطير منكم وكأنكم حاملي فيروسات معدية لا تجب ملامستكم.قبل فترة دشن " الجنرال محمد ولد عبد العزيز " زياراته الخاصة أو ما يعرف في وسط المتزلفين والمنافيق ب " زيارات التفقد والإطلاع " ، أو لنقل زيارات تبديد أموال دولة تعاني عجزا في موازنتها و عجزا في سدة حكمها أيضا حسب المعارضين – وأنا منهم لعل ذلك يكون خافيا – دشن زياراته إذا ، تلك التي يتم الإعداد لها بشهر إن لم يكن أكثر قبل حدوثها، وينطلق حينها موسم الهجرة إلى الداخل، إلى الولايات المزورة ، أو ما يعرف – ودائما حسب مصطلح المتزلفين – بعودة الأطر ، أو الكوادر إن شئت ! عودة من أجل استقبال " الجنرال " وهي عودة غير ميمونة بطبيعة الحال ، لأنها عودة من أجل خداع الفقراء و إرغامهم على كتمان آلامهم و إظهار الطبيعة الكامنة لدى الكثير من الموريتانيين ، إنها طبيعة النفاق ، لنقل التزلف لعلها تكون أكثر ملائمة.
دعوني هنا أستحضر أوصاف و تصرفات أو أدوار الأطر ، أبناء المدينة المَزُورة ، هم في الغالب موظفين بسطاء في القطاع العام، مدراء ، أو وزراء حتى ، رجل أعمال –الأهم عند الجنرال – يناط بهم ما يسمونه التحضير لإنجاح زيارة " الرئيس " ، يصلون قبله بفترة ، يقضون أيامهم ولياليهم في الإجتماعات الليلية والنهارية ، تسفر تلك الأجتماعات عن تقسيم الأدوار ، على الموظفين البسطاء في الإشراف على أبناء المدينة المطحونين في كنس شوارع المدينة، ومن هم فوق أولائك في الرتبة يشرفون عليهم هم أنفسهم ، أما رجال الأعمال فتوزع عليهم التكاليف نقديا، وطبعا تتفاوت تلك التكاليف حسب قوة رجل الأعمال وقربه من دوائر صنع القرار وقد يحدث أن يتنازعون في أيهم ينفق أكثر لأن البركة في الخواتيم ، أما الأموال المجمعة فستأجر منها الشاحنات لرمي القمامة وتوزع على أصحاب المنازل القريبة من مقر مبيت " الرئيس " لطلاء منازلهم وتزيينها بكل الوسائل الممكنة وهكذا دواليك ، المهم فقط أن يحرص الفقراء على إخفاء فقرهم بأنفسهم ، إنها دائرة التفقير التي كتب عليهم أن يظلوا داخلها.لقد كشفت زيارات " الجنرال محمد ولد عبد العزيز " لمدن الداخل زيف الإدعاءات التي يتشدق بها هو ومرافقيه ، لم لا نقول منافقيه! ، على الأقل بالنسبة لمن ينظر من خارج الجوقة ككاتب الحروف ومن يوافقه الرأي، فعلى الرغم من الجهود الجبارة التي تبذل من أجل إخفاء العيوب إلا أنها تأبى إلا أن تظهر لكثرتها وتشعبها وليست " أواني المياه الفارغة " التي استقبل بها في بعض محطاته إلا دليلا على أن المواطنين يعانون إلى أبعد الحدود ومن موضوع يعد هو الأهم على الإطلاق.وليس الرد الساخر للجنرال من العجوز العطشاء " التي لم تمت " في خرجته تلك ، إلا ومضة خاطفة من سخريته من المواطنين بشكل عام.
كل ما ذكرت فوق ضعوه في جانب ، وسأتحدث الآن عن جانب آخر أكثر إشراقا، ماذا لو ؟ وهنا كما هو واضح أتحدث عن مسائل مُتَخيَّلة طبعا!
فلا حديث عن عالم الأحلام الوردية في ظل حكم العسكر على الإطلاق، لكن مع ذلك سأطلق العنان ل" لَوْ " هذه لعل وعسى !ماذا لو أن أولائك " الأطر والكوادر " الذين ينفقون الملايين من أجل مَبِيتِ ليلة واحدة " للجنرال محمد ولد عبد العزيز " في ما يفترض أنها مدينتهم الأم ، ماذا لو جمعوا تلك الملايين ووزعوها على دفعات تستعمل كتمويل لمشاريع استثمارية مدرة للدخل توزع على أولائك السكان المعدمون، على الشباب ، وعلى التعاونيات النسوية، بالمختصر تستخدم للتنمية القاعدية ، ماذا لو تركت دُورُهم ومساكنهم على حالها التعيس حتى يعرف الجنرال أنه وبال ونقمة على أولائك العجزة ، الذين يصرون على أن يعلموهم من علمهم الدنيء – النفاق – ليظهر أحدهم مرتعش الأوصال أمام الجنرال ليلقي قصيدة لا يقوى على إكمالها من شدة المرض والتعب، لم لا تترك الأمور على حالها ؟
لم لا يترك الفقراء يعيشون في راحة بعيدا عن التزلف واحتقار الذات في محفل كان يمكن تنظيمه في الأماكن المخصصة له في نواكشوط ويترك الفقراء في حال سبيلهم ؟في الأخير ستستمر جولات " الجنرال محمد ولد عبد العزيز " لأن الجوقة تأدي الدور كما يجب ، وتستمر معاناة المطحونين من الفقراء والمهمشين في التزايد ، و يعود الجنرال لقصره ويعزم مجموعة من " الصحفيين " على المقاس ليعقد مؤتمرا صحفيا يكون هو السائل فيه و هم المجيبون مع ضحكات خفيفة مغتصبة على سحناتهم تماشيا مع الدور!