مهما كان حجم ما تراءى إثر زيارات رئيس الجمهورية لولايات الداخل من علامات القبلية المفلسة التي يحاول المغرضون و السماسرة المتاجرون بمفهومها الخائر أن يكسبوا من جاه زائف زهيد و مال وسخ بالنهب و مكانة اصطناعية لا يؤصل لها حب في الوطن و لا يدعمها عطاء علمي أو معرفي،
فإن القبلية تبدو أكثر عريا و هزالا و هوانا من ذي قبل و إن الذي حل محلها من "ارستقراطية" قبلية، و لا يجد معني يكسب منه اسما أو صفة تغطي سفاهته، هو أهون من بيت العنكبوت و لإن سأل سائل كيف يستقيم عودعا و الظل أعوج، فإن الإجابة الصادمة تأتيه حتما من عمق السؤال لأن نفي النفي بانتفائه.
و لا شك أن القبلية هي السرطان الذي أضر هذه البلاد بشدة و مع ذلك فإنه بدأ يؤول إلى الاضمحلال في شكله البدائي باتجاه الزوال الحتمي.
و للأمر أسباب منطقية قوية الوطأة على حال التغيير تمخضت عن ظرف برزت فيه الحركات المطالبة بحقوق الطبقات المهمشة و المظلومة القابعة في أدنى السلم في هيكلة التنظيمات المجتمعية التي توزع مجموعاتها إلى طبقات متفاوتة في الترتيب و المكانة.
و مهما كان حاصلا من أن هذا التغيير قد استجد في واقع الأمر على ضوء التحولات الكبرى، التي شهدتها الإنسانية بأسرها، و تجسدت في نظرة نضالية جديدة لواقع المجتمع مشحونة بأمل جديد في العدالة الغائبة منذ زمن بعيد بفعل الظلم الممارس بشدة على المستضعفين، فإن الارستقراطية القبلية الأكثر طغيانا قد حلت محل القبلية مجسدة هي الأخرى في مجموعات صغيرة من الأسر المنحدرة من نفس الفرع، تمتلك كل المال و الجاه و القيادة و الحكم و التمثيل في كل المحافل و الأمور السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و غيرها بوصفها المخولة وحدها تمثيل القبيلة و المسؤولة عن تسيير شؤونها و تحديد مصيرها.
و هي المجموعات أو الأسر المعدودة المنتمية في مجملها لأقل من عشرة قبائل حاضرة حضورا طاغيا و نافذة بمفاهيم تنتمي لزمن غابر رغم التدثر بالحداثة و المدنية المتعثرة التي تقود سفينة البلد المتأرجحة و المتراقصة على صفحة أمواج عاتية في بحر هائج لبلد هش و تتحدى بكل جرأة الأعماق المتحركة لمجتمع ينشد بدأ ينشد العدالة و المساواة.
و ليست مطلقا الكرنفالات القبلية التي أحيىت بمناسبة زيارات رئيس الجمهورية الأخيرة و حركت في الصميم و من تحت الرماد جمر القبلية إلا نطقا عارما و إفصاحا صارخا عن هذا التحول الحاصل في الوقت الذي تراءى فيها المبصرون و بوضوح ما اعترى هذا الاصطفاف القبلي من انفصال الطبقات الدونية عن جسم القبيلة و اتباعها في ذلك أثر كل الأسر من "الأصل" التي كانت تعاني الغبن في الغنائم و الإقصاء في المشورة و الحيف في المعاملة و غياب الندية داخل الجسم في وحدته مع الفروع.و لم يكن ليفوت مثل هذا التحول لولا أن المناورات و الحسابات السياسية التي تم وضعها بعناية و مكيافيلية للإبقاء على الوضع الاجتماعي كما هو قد فعلت فعلها نتيجة الاضطرابات و الملابسات التي جمعت بين شراء صمت المواطنين و ضمان اصطفافهم بسبب الفقر و الجهل و تحت وطأة الإرباك الغرضي و الغير بريئ الذي تصطنعه الإدارة في الفترات القصيرة التي تستغرقها الزيارات.
و يجب التذكير بأن الحراك القبلي لم يكن لحظة بمعزل عن الحضور البارز لحراك الانتهازية و الزبونية اللتين سهلتا و مكنتا المرور إلى المرحلة الجديدة و تزكية قوة "قبلية" اهتزت في واقع الأمر المغفل و قد أصابها الصدأ بفعل تآكل أسسها المنتمية قلبا و قالبا لزمن ولى..
انتهازية و زبونية تنخران جسم مجتمع و تذيبان قواعده المهترئة..
مجتمع تسوسه من الداخل آفتا النفاق و الكسل و قد زاد حدتهما من ناحية، حضور صحافة متحجرة، مشاكسة، متزلفة و منتحلة بنجاح منقطع النظير صفة الدفاع، في الإطار الحقوقي، عن المظلومين و تستجيب من كل النواحي لمتطلبات التحول الجديد من جهة، و تحارب بشراسة صحافة أخرى ملتزمة و تصر على محاصرة أرضية كان لزاما على ديمقراطية حقيقية أن توفرها و تحفظها لتصبح قوة رابعة تلعب كل دورها في قيام دولة القانون و المواطنة، من جهة أخرى.
و اليوم، أكثر من أي وقت فات، فإن القوى الوطنية الواعية و المحبطة مطالبة بغض النظر عن مشاربها و انتماءاتها الإيديولوجية بمواجهة هذا المد الجديد لـ"أرستقراطية القبيلة" الجديدة التي لا تمتلك خلفيات قوية اللهم الأموال الطائلة و الزائلة التي تحصلت عليها بنهب مقدرات البلد منذ استقلاله و بخضورها القوي والدائم في تسيير شؤون البلد على حساب العدالة و المواطنة.