للمرة الألف، تثبت ثورات الربيع العربي أنها الظاهرة الأكثر نبلاً وتأثيراً في حياة الأمة العربية، ربما منذ مائة عام، أو يزيد، على الرغم من كل ما رافقها من إحباطات وتآمرات، حاولت إجهاض الظاهرة، وحرق منجزاتها، وحرف مسارها كي "تحظى" بكل تلك اللعنات التي يطلقها أولئك الذين أدمنوا:
أولاً: رد كل ما يجري في بلادنا إلى مؤامرات خارجية، ومكر بليل، يأتينا من خارج الحدود، إلى درجة أنهم لا يثقون بأي جهد داخلي، ويُرجعون كل ما يحدث إلى ملف التآمر، وكأن هذه الأمة جسم ميت، لا يستطيع أن يتحرك إلا بالريموت كنترول.
ثانياً: استكانوا لـ "الوضع القائم"، مهما كان بؤسه، فكرهوا التغيير، واستمرأوه، وبالتالي، رفضوا فكرة أية ثورة أو حراك، ووضعوه في خانة هدر "المكتسبات" التي "ينعمون" بها.
قبل ثورات الربيع، كان الوطن العربي يعيش حالة موات قومي ووطني، وإنساني، وسياسي، ومن يطالع الأرقام عن حجم قراء الكتب، مثلاً، في الوطن العربي، يصاب بالصدمة، مقارنة بواقع الأمم الأخرى، وهو معيار ذو دلالة بالغة الأهمية، ويؤشر على "المرتبة" التي يحتلها العرب في السلم الحضاري والثقافي.
وفق معطيات مُنظمة يونيسكو، يقرأ 80 عربيًا كتابًا واحدًا في العام، كمعدل (مع استثناء القرآن الكريم) مما يعني أن المواطن العربي العادي يقرأ أقل من 2% من الكتب، في حين يقرأ الأوروبي بضعة كتب في العام، وأظهر تقرير نشرته مؤسسة الفكر العربي أن العربي يقرأ بمعدل 6 دقائق في العام، بينما يقرأ الأوروبي بمعدل 200 ساعة.
وفيما يتعلق بإنتاج الكتب، وُجد أنه يتم في الدول العربية، كل عام، نشر أقل من خمسة آلاف كتاب جديد، بينما في الولايات المتحدة، مثالاً، نحو 300 ألف كتاب جديد. أما الترجمات من الإنكليزية ولغات أُخرى إلى العربية فهي النسبة الأقل في العالم، حيث تعادل كمية الكُتب التي تُرجمت إلى العربية منذ فجر الإسلام عدد الكتب التي تُرجمت إلى الإسبانية في عام واحد. هذا مقطع عرضي سريع في حقل واحد من حقول الحيوية الحضارية التي كان يعيشها العرب، قبل الربيع.
وقل مثل ذلك عن الفجوة الاقتصادية والجوع والتخلف الصناعي، وكل مظاهر الحياة العامة، ناهيك عن حالة الإحباط العام، ورهن مقدرات الأمة كلها للتشبث بالكراسي، وخدمة طبقة رجال الحكم، فما الذي فعله الربيع؟ قد يقول قائل هنا، هل زادت نسبة القراءة، مثلاً، بعد ثورات الربيع؟
أو تحسن الإنتاج الصناعي، أو قلَّ الاعتماد على الغرب في معاش المواطن العربي اليومي؟ طبعا لا، كل ما في الأمر أن الربيع هز أركان عروش وكراسي الحكم التي كانت في حالة "ثبات" عقوداً خلت، إنه أشبه ما يكون بـ "جك همر" زلزل الكيانات المتكلسة، ولم يترك مساحةً، ولو تناهت في الصغر، إلا وهزها بعنف، وهي مرحلة لا تتسم بالإيجابية المطلقة، لكنها، على كل حال، تعيد تشكيل الوطن العربي، على نحو جديد، وهي، كالمخاض الذي يتسبب بألمٍ كثير، لكنه، في النهاية، يختتم بالمسرة.
أهم نتائج ثورات الربيع العربي، فتح ملف الحدود والخرائط التي رسمها "سايكس وبيكو" وبقلم رصاص، حين قسموا الوطن العربي إلى دويلات ومشيخات وإمارات، وزرعوا تحت كل حجر في هذه الحدود لغماً قابلاً للانفجار في أية لحظة، لضمان حالة خمول واستلاب وطني، يستحيل معها نهوض أمة العرب، وتحررها من هيمنة الداخل والخارج، وما فعلته ثورات الربيع أنها أزالت القداسة عن هذه الخطوط التي رسمها ذلك الفرنسي والبريطاني، لاستبدال الاستعمار المباشر، باستعمار خفي ملتبس، أبقى الأمة في حالة مريعة من التفكك، وزاد الطين بلة، حينما أسسوا ما يسمى جامعة الدول العربية، لحراسة حالة التخاذل، والبطالة القومية، وتأبيد تلك الخطوط، باعتبارها حالة مقدسة، لا يجوز المساس بها، تحت مسميات مختلفة، مثل عدم جواز التدخل بالشأن الداخلي للدول، وتحريم المس بحدودها، وما شابه من تعبيرات تؤبد الانقسام، وتكرسه كواقع "إلهي"، لا يجوز الاقتراب منه، أو حتى التفكير فيه.
وكانت تلك الفرية الكبرى المسماة: الوحدة العربية، ضرباً من المخدر الخيالي الذي ظل حلما بعيد المنال، لأن ثمة حراساً أشداء، يسهرون على "حماية" التفتت والانقسام.
في مرحلة ما بعد الربيع، لم يعد ثمة قداسة لهذه الحدود، والحديث يجري عن "إعادة ترسيم" لها، وفق معطيات جديدة، بعضهم يحلو لهم أن يصفها بأنها اعتبارات طائفية، أو إثنية، أو عرقية، وهي أوصاف ليست بعيدة عن الواقع، لكنها خاضعة لجملة اعتبارات ستحدد شكل هذه الخارطة الجديدة للوطن العربي، أهمها أن الموطن "الفرد" الذي أدمن الخضوع، والخوف، والاستلاب، لم يعد يرضى بأن يكون بيدقاً على رقعة الشطرنج، يحركه اللاعبون أنّى شاؤوا، فثمة شعور جديد، مسَّ العقل الجمعي العربي، يجعله يرفض أن يبقى "على الحياد"، فيما يرسم الآخرون مصيره، وهي حالة تتسم بفوضى كثيرة، وبضباب الرؤية، بسبب كثرة المتدخلين العابثين، من أصحاب المصالح، المتضررين من صحوة الشعوب، وانتباهها لأخذ مصيرها بأيديها، بعد طول استكانة للغيبوبة. الآن، بعد ثورات الربيع، ليست هناك "دول ثابتة" في المنطقة العربية، وإسرائيل ليست استثناء، وخلال عقد أو عقدين، على الأكثر، ستكون في منطقتنا، خارطة جديدة، ستخلو من "إسرائيل". لا أشك في ذلك، ومن يعش ير .