عندما يكون الإعلام عرضة للتوجيه القبلي و التذمر العرقي و الحقوقي و الاختلافات الأيديولوجية و الأطماع الفردية فلا بد أن تضعف مناعته و تخور قواه و يتحول إلى معول هدم يحمله كل ساعد مصاب برعشة الأحقاد و الشحناء و البغضاء و الجشع يدك به كل حصن تقاربي أو خلقي أو ديني
أو اجتماعي أمكن له أن يكون بأي صيغة أو مستوى يخفف من شحناء الاختلاف و تعارض المصالح في دائرة الوطن المعزول عن أسباب النضج الفكري و بناء الكيان الجامع الحاضن و المغدق بخيراته الكثيرة تحت ظل وافر العدل و في حمى المعتقد الواحد و الديمقراطية المحققة المواطنة الجامعة و الحرية المسؤولة.
و عندما ينقسم هذا الإعلام بما يبين من ضعف و بعد عن حفظ الأمانة و أداء الرسالة؛ فسطاطين لا يلتقيان على مبادئ المهنة المشتركة و لا يحترمان أخلاقياتها العالية، لكل لغته متعصب عليها و ملغي لسواها فلا بد أن ينتفي قيام رسالته البارزة المعالم و يقوى على العكس وقعها السلبي على الثوابت و أولها الوحدة الوطنية التي تضمن تعايش كل المكونات في سلام و وئام.
فسطاطين غريبين على بعضهما لا يتبادلان الرؤى و لا يترجمان الأحاسيس بينهما بلغتين تحمل كل منها أجنة مشبوهة.
و أما فسطاط اللغة الفرنسية التي بدأ يضمحل من ندرة الأقلام و شح النضج الفكري الوطني و الانحسار في زاوية التملق السياسي و البحث عن المناصب الآنية و الأطماع الأنانية، فقد غلب على النزر القليل منه الذي ما زال يدعي حمل بعض الهموم الوطنية الكبرى الشطط السياسي و النزعة الحقوقية الحادة و مخاطبة جهة حددها دون أخرى يشجبها و يرمي عليها كل أثقال ضعف الدولة و أسباب الخلافات السياسية المزمنة، فسطاط إعلام ناطق بالفرنسية يدعي المهارة الإعلامية و الفوقية المهنية و الانفتاح و التنوير.
و أما الفسطاط الثاني الناطق باللغة العربية و الأكثر انتشارا مواقع و صحفا و قنوات إذاعية و تلفزيونية، فكثرة عددا على قلة عطاء في نضال من أجل البلد في ثوابته و توجهاته إلى المستقبل.
فسطاط ناطق بلغة أراد لها عن وعي أو غيره أن تظل في جلباب الماضي و أن لا تتدارك نفسها فتفي و هي على ذلك قادرة بمتطلبات التحول و بناء المستقبل، و حجم عطاءها و سخرها لمفاهيم ولت و عقلية لا تلائم الحاضر و مبعدا إياها عن منافسة لغة العصر.و عندما لا يتقاضى الصحفيون أجورا و لا يتمتعون بعقود تحفظ لهم حقوقا و لا يلقون احتراما من الجهات الرسمية و الخصوصية، فمن أين لهم أن يؤدوها رسالة صاحبة الجلالة و سيدة السلطة الرابعة؟
و عندما لا تتراءى للعاملين في الحقل الإعلامي آفاق مستقبلية واعدة بالسمعة الطيبة و الأداء الإيجابي و الراحة المادية و التوازن النفسي و راحة الضمير، فإن أي أداء لهذا الإعلام سيظل مطبوعا بالتقصير، غير مستقل، لا موضوعي، لا حيادي، لا مهني، فلا يراعي متطلبات و ضوابط المهنة و لا يلتزم بأخلاقياتها العالية.
هي الحقيقة المرة التي أوجدها أولا غياب مفهوم الدولة و رسخها من بعد ضعف الوعي المدني و تفاقم الشرخ بين مكونات المجتمع نتيجة تسرب الوعي الحقوقي و الشعور بالغبن و اتساع الهوة بين الفقراء و الطبقة البرجوازية الارستقراطية المتمكنة من مقدرات البلد و الحاضرة بقوة في مراكز القوة و الجاه و التسيير.
فكيف بالنتيجة لوضع مثل هذا القائم أن يحتضن إعلاما قويما أو بالأحرى أن يرسخ وحدة وطنية كل موقوماتها عرضة للدجل و الإسفاف السياسي و من جهة و للتقوقع داخل مفاهيم ماضي لا يقبل التراجع و رابضة في عقول تأبى التنوير و لا تؤمن بوجود نصف الكأس الممتلئة بشآبيب رحمة الحق.