بينما تتجه الأنظار كغيرنا من الدول الواقعة بين فكي شراك التخلف الحضاري و الاقتصادي، إلى مسألة الإرهاب المنظم و المسلح "فعلا" ساخنا يؤرق و "موضة" بالغة في التعاطي السياسي الملحمي، تغيبُ النظرة الثاقبة عن أغلب شعوب دولها المتخلفة على الصعيد الحقوقي الإنساني و تعيشُ بأوضاعها المزرية في ذالك حالات سوء التسيير و غياب مفهوم الدولة و تعثر التحول السلوكي الحضاري و ضعف نفاذ الثقافة المدنية المصاحبة؛ واقع يلقي بظلاله على "الحكامات" فيقوضها و يوجه بأسوء "الربابنة" إلى ما لا تشتهيه سفن هذه الشعوب التي لا تجيد السباحة و تخاف البلل من جراء تلاطم أمواج اضطراباتها المزمنة في بحرها اللجي.
ظلم، تخلف، مرض، جهل، تباين بين فئات المجتمع التي تصر بفعل الواقع على حمل جينات الماضي رغم الصخب المرتفع حول بعض تحول و لو كان إيجابيا نسبيا قد طرأ من دون جدوى في صميم العقلية العامة.
و لأن الإرهاب في إحدى أدق و أوجز تعريفاته هو "وسيلة من وسائل الإكراه"، فلا شك أن القلة التي تتمكن لسبب أو لآخر - تاريخيا كان أم بنيويا في سياق مجتمع أو مجموعة أعراق أو حيز ترابي يتمتع بشكل من الأنظمة أو يكون في غيابه بتاتا - من أن تفرض سطوتها و تمارس فوقيتها الصاخبة أو الصامتة على الأغلبية المغلوبة على أمرها، فإن هذه الفئة بمنطق العقل و الواقع هي فئة "إرهابية"، إذ ليس أشد إيلاما و عسفا و قهرا من الفقر و العوز و العجز عن الذود عن ابسط الحقوق أو انتزاعها و في غياب تام لكل سلاح حقوقي أو سياسي أو معنوي.. واقع كرس من جديد:
- إرهابا - كان يحمل في الماضي اللصيق بالحاضر السقيم أسماء أخرى أقلها "السيبة" - هو إرهاب البرجوازية الأرستقراطية القبلية و الطبقية الإثنية و الحقوقية المشيبة بصفة طابور ثالث تقتسم جميعها عصارة خيرات البلد و تستأثر بالريادة فيه و بالقرار
و جدد من ناحية أخرى:
- موازين القوى المختلة التي كانت مصاغة في قوالب أكثر تضييقا على الفئات الضعيفة و المهمشة في نظام مجتمعي كان قائما و لا زال بشكل يعتمد جهارا توزيع الأدوار و المقام و الدرجة و الرتب.
و فيما يشبه هذا الإرهاب القائم ذاك الإرهاب الفكري من حيث الممارسة المتبجحة على "الصمت" المكرس للقبول المطلق لهذا الواقع، فإن واقع الحياة الماثل يشي بغير ذلك، و يفضح أوجه الإرهاب المسلط على هذا الواقع فلا تكاد تخفى آثار سياطه على الأجسام من فقر دامغ و فاقة لافتة و في طوابير المتسولين أمام عمارات و أسواق و بيوت و مكاتب المستأسدين على الثروات و المقدرات و حيز التسيير و القرار.
إنه إرهاب القلة على الأغلبية و الذي لا تنكره العين المتأملة من سراب الخطاب الحداثي و لا تغطيه كثرة الأحزاب السياسية في هشاشة المحمل أو تعدد أوجه المجتمع المدني النفعي أو تصاعد خطاب المنظمات المحسوبة على تكريس حقوق الإنسان تبجحا في غالب الأمر؛ إرهاب خلط الحابل بالنابل و هيأ الأرضية للعودة إلى مربع النضال الأول من أجل وضع الأساس لأول الطريق إلى دولة المواطنة لتحارب الغبن و التهميش و الإقصاء و توجه سدة البلد إلى ينابيع "دولة القانون" فترتشف من معينها إكسير البقاء و تأسس لدولة القانون الحامل في سياقاتها ديمومة الكيان.
إن الإرهاب المتمثل في نهب مقدرات الدولة من دون إبقاء لأي أثر على أرض البناء أمر مهول لا يمكن أن يدوم لأن في ذلك تمام فناء القيام و الوجود. فبعد مضي أكثر من خمس و خمسين سنة على الاستقلال و تأسيس الدولة و على استغلال مناجم الحديد و النحاس و الذهب والجبس و البترول و السمك لا يوجد أي أثر أو علامة لأدنى نوع من الأساس الاقتصادي أو الصناعي أو العمراني، فلا:
· مصانع قائمة للصلب من الحديد تلبي أدنى الإحتياجات من مواد البناء و بعض الهياكل،
· محطات لتكرير البترول و استخراج بعض مشتقاته من المحروقات و المواد البلاستيكية،
· وحدات تحويلية لأبسط مقومات الاستقلالية و الاكتفاء من بعض الضرورات الاولية،
· بنى تحتية تقي من فيضانات أو زلازل أو تصحر أو عطش،
· اكتفاء ذاتي من المواد الغذائية على ضفة نهر معطاء.
إنها بليارات و مليارات من الأوقية و من العملات الصعبة دخلت خزانات الدولة و تلاشت منها كأنها لم تصلها لحظة. أحجية أقرب إلى الخيال منها إلى المنطق حول هذه الثروات و المداخيل الطائلة. حفنة من الرجال و النساء و الصبية يملكون أغلب ما يكون من هذه الثروات فلا يشيدون المصانع و لا يبنون المرافق و لا يوجهون الأموال إلى العمل الوطني أو الإنساني و إنما يودعونها في مصارف الخارج.
إشكالات كبيرة تثيرها هذه الوضعية الاستثنائية لبلد هو في الواقع من أغنى بلدان العالم بالموارد و أقلها ساكنة و إن ظل أفرادها يدسون رؤوسهم في رماله الحارقة و الجافة عن هذه الحقيقة الدامغة.
فهل من إرهاب أشد فتكا من إرهاب يقوم على تكريس واقع شاذ تسلط بموجبه على أيدي أرستقراطية مالية جديدة سياطُ الفقر و الذل و التهميش على ألأغلبية الكبرى من الشعب و باستخدام كل مفاهيم الرجعية و الإقطاعية، أقلية تكرس كذلك جميع مقدرات البلد لكل ما يناقض متطلبات الدولة الوطنية المستظلة بالعدالة و العاملة بمبدأ المواطنة و مفهوم الدولة؟ و هل من إرهاب أولى بالاهتمام من هذا الإرهاب السرطاني الذي يعمل من داخل جسم الكيان و يأكل أنسجته في رتابة الواقع وضعف أسباب التغيير في غياب النخب و ضعف التعليم و السياسة "النفعية" إن جاز التعبير و الإعلام الموجه.