1- معظم المحافظين الموريتانيين الذين أعرِفُهم يجهلون مواضيعهم. وغالباً بشكل مأساوي ومثير للشفقة. والحقيقة أن المحافظة بطبيعتها تُريدُ رِداءً من الجهل، إذ تقتضي التعميم ورفض الديناميكية والتفكيك وتقمع التنوع التاريخي وترميه تحت السجاد أثناء "التنظيف" وإلاّ لما أمكنَها الدفاع عن قيّمها (لأن هذه القيم قائمة فقط من منظور استدراكي هو "المحافظة" عينها). المحافظة قائمة على "غطاء الجهل" الذي افترض جون راولز أنّه أساسي للعدالة. ونقصدُ بالمحافظين الموريتانيين أولئك النشطاء الذين أعطوا أنفسَهم لرفض التحولات الاجتماعية والفكرية وشيطنتها باسم التقاليد والدين والقداسة. وسرعان ما يُصبح النشاط المُحافِظ سهلاً: إذ يكفيه أن يصف الخصم بأنّه "مستغرِب" حتى ينهي محاججته ضده. وليست المحافظة الموريتانية غير مُجدِّدة لخطاب "البدعة" الذي عاشت عليه العقول البسيطة في غابر الأيام.
2- يقومُ جهل هؤلاء المحافظين على افتراض أن خصومَهم ينتمون لما هو أجنبي ومستوردٌ وغربي وأنّهم هم ينتمون لما هو أصيل وراسخ وشرقي. ويُعمي هذا حقيقة الابتداع في هويات المحافظين أنفسهم. وحتى بالنظر إلى الأسلوب فقد استعارَ "المحافظون" أنماط التدوين والاحتجاج من نظرائِهم الليبراليين والقوميين واليساريين. ويقبلون بكلِّ إطارات الدولة "الاستغرابية" باستثناء قاموسِها. ولا يملكون حتى استقلالاً أسلوبياً. وكما نعرف فإن اللغة العربية الحديثة هي بنت الحداثة وصنيعة التحولات الاجتماعية المعلمنة. والحقيقة أن الخيمة السياسية للمحافظين نفسها هي حزبٌ سياسي نشأ من أدبيات خارجة على المجال الموريتاني حتى في إطاره التقليدي (المالكي الصوفي الأشعري). والحركة الاجتماعية التاريخية الوحيدة التي يزعم الانتماء لها هي حركة هزمها المجتمع التقليدي بشكلٍ تلقائي. وما هو أدهى أن المحافظين الموريتانيين يُعادون كثيراً من القيم التاريخية الموسيقية والفنية والفقهية والجنوسية في البلد. أي أنّهم ليسوا فقط غير محافظين بل ومناضلين ضد "الأصالة".
3- وغالباً ما تكون المحافظة الموريتانية المُحدَثَة حركة تشتغل خارج العرف وتضطر لارتداء القناع والقلم المستعار لتدافع عن القيم، فكأنّها بهذا "حالة طوارئ" أغامبية تروم إعادة العرف بتجاوز العرف. و يكادُ يكون مُسلماً به الآن أن السب والشتم هو سلاحُ المحافظين الموريتانيين وذلك في مسعاهم لإقامة مجتمع شريف وأخلاقي! ولا يجد الجمهور المحافظ مشكلة في هذا؛ فباسم الدِّفاع عن القيم الأصيلة يُسمحُ، بل يُشجّعُ، رَجلٌ يستعير اسماً أن يقدح في شرف النساء، اللواتي جردهن المجتمع من إنسانيتهن لثبوت جرم عدم التقليد عليهن. وهكذا تمرق المحافظة الموريتانية على قيمة الشهامة" التأسيسية لأي محافظة لكي تنتقد من يخرج على العرف. وبهذا المعنى فالمحافظة المحدَثة هي "مستر هايد" الخاص بالدكتور جكيل. إنّها ذلك المسخ الساكن في جسم الرجل المثالي. إنّها تعيش في بدنه ولا تستيقظُ إلاّ عندما ينام لتقوم عنه بما لا يستطيعه ولا تسمحُ له به قيمه. إنّها محافظة كافكاوية: من نوع الخنفساء المهووسة بمشاكِلها أيام كانت إنساناً.
4-في صميمها ليست المحافظة الموريتانية محافظة إلاّ على التراتبية. فهي لا ترفض الخروج على العرف، بل تشترط فعل ذلك في الإطارات التقليدية فقط. فعندما ترفض نقد العلماء فهي على علمٍ أن العصر الذهبي لانتقاد العلماء كان القرن التاسع عشر الموريتاني، أي قبل أن عملية "تغريب" محتملة، حيث كانت حروب العلماء على قضايا التصوف والتدخين وأنماط اللبس وموالاة "النصارى" وحلق اللحية فرصاً لإنتاج آلاف قصائد التسابب والتلاعن بين مجتمع الزوايا والعلماء. وفي الحقيقة فإن الحزب المحافظ في موريتانيا قامَ على نقد مؤسسة العلماء الرسمية الموريتانية وهجائها وحرق صورها، مع رومِ وراثتِها، (ومازال هذا الصراع الطبقي والتحزبي بين العلماء الموريتانيين يقوم على تسيير مواكب بعثات الدعاة ومواسم الحج وتمويل المساجد). ولا يغدو نقد العلماء جرماً في نظر المحافظة الموريتانية إلاّ عندما يقوم به "حداثي" وخصوصاً يساري. ساعتَها لا يغدو صراعاً اجتماعياً أو تدافعاً أو نقداً للرهبانية، بل يعدو كفراً بواحاً. إن المحافظة الموريتانية، بهذا المعنى، دفاعٌ عن الترابية التقليدية وعن النادي التقليدي. إنّها دفاعٌ عن القوانين القديمة للعبة الأبدية.
5- ليس للمحافظة الموريتانية المحدَثَة أصالة محافظة السبعينيات التي قادَها الشيخ بداه ولد بوصيري، وجدّدها الواعظ ولد سيدي يحي في التسعينيات. هذه كانت في جملتِها حركة تقشفية معارضة للبرجوازية ولنمط حياة الطبقة الوسطى الحداثية. أما الحركة المحافِظة الحديثة فهي جزء من البرجوازية ومقتاتة عليها، إما باقتصاد المحافظة الخليجية والإخوانية أو من خلال اشتغالِها لاشعوراً للطبقة الوسطى تُعذِّبُها بتأنيب الضمير على فرارِها من الشكل القديم الافتراضي للمجتمع. كانت الطبقة المحافظة القديمة حركة عُلماء تقليدية تُعارِض المساحات الشاسعة التي تَخرُجُ عن النص؛ أما المُحافظة المُحدَثَة فهي ما ينوب عن العلماء من لَفَظَةِ "الحس العام" والوعاظ منزوعي الدسم.