إن الأعمال الذهنية والعملية تتطلب مهارات وقدرات متفاوتة، إذ يستحيل بناء الحياة وقيام شبكة العلاقات الاجتماعية بين أصحاب النمطية الواحدة، لأن الاختلاف في وجهات النظر وتقدير الاشياء أمر فطري، له علاقة بالفروق الفردية الى حد بعيد، "فكل ميسر لما خلق له".
واذا كان في اختلاف ألسنتنا وألواننا وأطوار خلقنا آيات للعالمين، فإن اختلاف عقولنا وما تثمره تلك العقول لدليل على قدرته جل جلاله على إعمار الكون وازدهار الوجود وقيام الحياة الى جانب اختلاف الالسنة والالوان والتصورات والافكار التي تفضي الى تعدد الآراء والأحكام وتختلف باختلاف قائليها، ولما كان الاختلاف آية من آيات الله، فإن الذي يسعى لإلغائه كلية، فإنما يروم محالا ويطلب ممتنعا، لقوله تعالى: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم}.
غير أن هذه الاختلافات يجب أن تحكمها ضوابط وقواعد وأصول، وآداب، تحفظها من علل النفوس كالعجب بالرأي، والطواف حول الذات، والانشغال بعيوب الناس، حتى يصل الأمر إلى فجور في الخصومة، وعندها يقبع من لا يتقيد بآداب الاختلاف وراء جزئية يضخمها حتى تستغرقه فتصبح وسيلة للتآكل الداخلي.
وهذا ما نخشاه نحن الموريتايون على طبقتنا السياسية المطالبة اليوم بالحوارالسياسي بأساليب لغوية متباينة واتهامات متبادلة، مستغلة ما تنعم به بلادنا من حرية إعلام، ورأي حر، وديمقراطية فتية، وهي مكتسبات تجب المحافظة عليها، وعدم تشويهها واستغلالها في المناكفات والتنابز بالألقاب.
مع أن الإختلاف بوجهات النظر إذا ارتكز على الضوابط الشرعية حري به أن يكون ظاهرة صحية تغني العقل بخصوبة في الرأي، ورؤية للأمور من أبعادها وزواياها المختلفة، "فطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس".
ومع ذلك لا بد من التدرب على آداب الاختلاف والأخلاق التي تحكمه، لأن الإسلام يتسع لتلك الاختلافات التي لا تهدد وحدة الأمة، فيكفي أن تتوحد المواقف إزاء القضايا الكبرى، أما الأمور الفرعية التي يساعد اختلاف الرأي فيها على الإرتقاء نحو الافضل فلا ضير فيها، لأنه من فوائد الاختلاف المقبول:
- تلاقح الآراء ورياضة الأذهان وفتح المجالات للتفكير للوصول إلى سائر الافتراضات.
- كما أنه يتيح التعرف على جميع الاحتمالات التي يمكن أن يرمى إليها الدليل بأي وجه.
- الحصول على حلول متعددة أمام صاحب كل واقعة ليهتدي إلى الحل المناسب.
يقول الإمام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين عند ذكره لعلامات طلب الحق: "أن يكون في طلب الحق كناشد ضالة، لا يفرّق بين أن تظهر الضالة على يده، أو على يد من يعاونه، ويرى رفيقه معينا لا خصما، ويشكره إذا عرفه الخطأ وأظهر له الحق".
.
أما الاختلاف المذموم، فيجب الحذر منه ومن جميع أسبابه السيئة التالية:
- الغرور بالنفس، واتباع الهوى وحب الدنيا وقلة العلم.
- سوء الظن واتهام الآخرين بغير بينة، وعدم التثبت في نقل الأخبار.
- الحرص على الزعامة.
- التعصب لحزب أو جماعة أومذهب أوطائفة أو قائد أو بلد أو إقليم.
وإذا كان الاختلاف أمر واقع لا محالة بين طرفين فلا يجوز أن يؤدي إلى تباغض أو تدابر أو تقاطع، لأن أخوة الدين والانتماء للوطن الواحد وصفاء القلوب، قد تسمو بالجميع فوق الخلافات الجزئية، كما أن اختلاف وجهات النظر، لا ينبغي أن يقطع حبال المودة، "فالاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية" يقول فولتير" قد أختلف معك في الرأي، ولكني على استعداد أن أموت دفاعاً عن رأيك".
ومع ذلك فإن الاختلاف مع كونه ضرورة، فهو في الحقيقة رحمة ، لذلك نجد الخليفة عمر بن عبد العزيز يقول عن اختلاف الصحابة رضي الله عنهم: "ما يسرني أن أصحاب رسول الله (ص) لم يختلفوا، لأنهم لو لم يختلفوا لم يكن لنا رخصة، فهم باختلافهم أتاحوا لنا فرصة الاختيار من أقوالهم واجتهاداتهم، كما أنهم سنوا لنا سنة الاختلاف في القضايا الاجتهادية، وظلوا معها إخوة متحابين".
قواعد الحوار:
إن الطريق الأفضل لفهم الآخر والتعرف على مقاصده ورؤاه، بعيدا عن الأحكام المسبقة التي تدفع إلى الشقاق والاختلاف، وتولد المزيد من الإحباط ، هو بدون شك اعتماد الحوار كوسيلة حضارية في التفاعل مع الغير.
وقد قعد ديننا الحنيف للحوار، ورسم له الحدود والضوابط، ومنع كل ما من شأنه تهميش هذه الوسيلة أو التقليل من حيويتها، حيث يقول مؤسس علم الأصول الإمام الشافعي في قاعدته المشهورة: "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب".
وبالركون إلى هذا كله فإن الخلل الذي نعاني منه اليوم في مجتمعنا لا يصلحه إلا التفاعل من خلال الحوار بعيدا عن القهر والتهميش وتأليب جانب على آخر من خلال وسائل إعلامنا الحرة، لذلك يجب على السلطة السياسية أن تمثل دور الوازع الذي يقف عند تهيئة جو الحوار الهادف، حتى وإن كانت متحفظة عليه، لأن الكبت السياسي والفكري لا يضر السياسيين والمفكرين والمثقفين فحسب، بل سيضرب في عنق النظام بعد أن يستفحل خطره، "فالفكرة المكبوتة قنبلة موقوتة".
ومع ذلك لا بد من أدب في الحوار يحترم فيه صاحب السلطة، ويحافظ فيه على المشتركات الوطنية، حتى أن الدول المتحضرة أوجدت أماكن مناسبة للمفكرين والمثقفين والسياسيين بالقرب من السلطة، واستفادت منهم في حركة النقد الهادف فأصبحوا عونا لها، ولم يكونوا خطراعليها.
وإذا كان منهج الجدل والحوار قادرا على احتواء جميع الصراعات والاختلافات فإنه يجب علينا أن نتقيد بالأصول والقواعد الرئيسة التي تضبط مسارهذا الحوار:
- الأصل الأول: التجرد في طلب الحق، والحذر من التعصب، وإظهار الغلبة والمجادلة بالباطل.
- الأصل الثاني: تحديد الهدف والقضية التي يدور حولها الحوار.
- الأصل الثالث: الاتفاق على أصل يرجع إليه، إذ إن الاختلاف في المنهج سيؤدي إلى الدوران في حلقة مفرغة.
- الأصل الرابع: عدم مناقشة الفروع قبل الاتفاق على الأصول.
أما إذا أردنا أن نؤسس لحوارجاد بين فرقائنا السياسيين فعلينا أن نهتدي بنفس القواعد المتبعة عالميا لمثل هذا الغرض، والتي من ضمنها:
- التركيز أولا على النقاط المشتركة وتحديد مواضع الاتفاق لأن ذلك يساعد على تقليل الفجوة، ويوثق الصلة بين الطرفين.
- التدرج والبدء بالأهم ، فمعرفة الأهم والبدء به يختصر الطريق.
- العدل والإنصاف، كالتفريق بين الفكرة وقائلها، وإبداء المحاور إعجابه بالأفكار الصحيحة.
- الإخلاص وصدق النية ، والكلمة الطيبة، وحسن الاستماع، والاحترام المتبادل.
- الحلم والصبر، لأن "الحلم سلاح القوي"، "والصفح أبلغ من كظم الغيظ".
- التسليم بالخطأ والرجوع إلى الحق فالعاقل هو الذي يسلم بخطئه، ويعود إلى الصواب إذا تبين له، ويفرح بظهوره .
- عدم الأخذ بالمواقف المسبقة التي لا تقبل النقاش ولا تغيرها الحقائق الدامغة .
لكن هل ستعمل طبقتنا السياسية بمقتضيات هذه القواعد؟ وهل ستتحلى بآداب الاختلاف؟ أم أنها لا ترغب في الحوار أصلا؟