قضايا اجتماعية : الكذب الذي يختبئ تحته ضعاف النفوس

خميس, 2014-07-17 02:20

توارث الكثير من الأفراد سلوك الافتخار والخيلاء، فلا تمر الكثير من سفرياتنا وتنقلاتنا في وسائل النقل إلا ونحضر لبطولات من نسج الخيال، روادها شباب لا يتوفر فيهم حتى الحد الأدنى من الثقافة والمستوى المعيشي، يصفون حالهم بأنهم عظماء هذا الجيل ورواده، يتوارون بين الناس في ذكر بعض أعمالهم، يذكرونها من باب لفت الانتباه لمن حولهم لا غير، لكن أغلبهم لا يملك حتى ثمن تذكرة سفره ولو بثمن زهيد، نذكر وسائل السفر للذكر لا للحصر، لأن هذه الظاهرة انتشرت في كل الأماكن دون استثناء.

 

"شاب برتبة مدير مؤسسة وآخر يملك سيارة آخر طراز... لكنها معطلة"

 

   حلت لعنة وسائل النقل اليوم على الكثير من الركاب، حيث أصبحت مراكب للموت والانتحار بعلم العام والخاص وحتى السلطات، ترجع في الأساس إلى السائقين المتهورين الذين أصبحت أرواح الركاب عندهم كقدر جناح بعوضة لا أكثر، اتخذوها للهو والمعاكسات، لا لخدمة الأفراد وكسب الرزق، ويتسع مجال الضيق في الكثير منها إلى سلوك بعض ركابها وهم في لحظة طرب ونشوة في ذكر محاسن أعمالهم، ففيهم من يدير شركة بهاتفه النقال مخاطبا "السكرتيرة" افعلي كذا وكذا ودعك من ذلك، بل ويتوعدها بالطرد عندما يصل إلى الشركة، والآخر يحكي عن صراعاته في العمل وكيف فصل فيه بشكل تام ونهائي بفضل حنكته وقدرته على السيطرة والإحكام، كيف لا وهو الملقب بالعبقري بين أقرانه، بل منهم من يرفع الهاتف النقال مخاطبا صديقته أنه يعاني في جو الحافلة الخانق، التي لم يتخذها وسيلة للنقل مند عشرين سنة، لأن سيارته حدث لها عطب فتركها في البيت وخرج، في مقابل هذا، فربما سنه لا يتجاوز الخامسة والعشرين، فمتى كبر واجتهد في عمله وأصبحت لديه سيارة آخر طراز وهي الآن معطلة؟

 

"فتاة توظف خمسة شباب من فوق كرسي بلاستيكي في الحافلة"

 

في عز البطالة، التي أهلكت شبابنا اليوم في كل الميادين وأصبحت كابوسا للعديد منهم، حيث لا تنام جفونهم منها، ألفنا وجود فتاة ربما لا تتجاوز العقد الثالث من عمرها، في بمكتب صغير  و تلتصق بكرسي بلاستيكي، تحمل بيدها مذكرة لا ندري ما كتب فيها إلا أنها تفتحها في كل مرة يرن هاتفها، الأمر طبيعي ربما للكثير من الأفراد الذين يصادفونها لأول مرة، لكن لمن يتصادف معها يوميا كحالنا فالأمر مخجل حقا. ألفنا أن من يوظفك في مؤسسة ما هو ذلك الشخص الأنيق والمعروف بين الكثير من الناس، الذي تترامى سلطته في كل حد صوب، حاله كحال الأخطبوط، لكن هذه الفتاة أقصت هذه الصور من أذهاننا، فقد حضرنا معها في العديد من المرات وهي تعالج ملفات تشغيل كثيرة، تحملهم في مخيلتها، وظفت خمسة شباب حضرنا لتنصيبهم في مناصب مختلفة، ولا ندري كم وظفت منهم في غيابنا الله يعلم، فهي ترسل فلانا إلى علان، ترسم له طرقات عديدة بين الوزارات ومقرات التوظيف والتشغيل، تنتهي بتهنئته على المنصب الجديد. تنهي كلامها في الغالب بمجاملات مع المتحدث إليها من وساطتها الكثيرين وهي تخاطبهم باللهجة الفرنسية العرجاء تختتمها بجملة    "مرسي مسيو" وبارك الله فيك، وإن شاء الله نرد لك هذا في أقرب الآجال وأقرب فرصة، وسلامي إلى "المادام" أي ربة بيته.

 

ربما يسعى الكثير من الأفراد إلى عمل الخير وهو فطرة، لكنه تحول عند البعض منهم مباهاة وافتخارا وهو حال هذه الفتاة، فربما هذا الكرسي التي تتحدث من فوقه هو أحسن من الذي تجلس عليه في منصب عملها، فقد تبين الأمر في النهاية، أنها مجرد عاملة بسيطة تنتظر في كل نهاية شهر ذلك المبلغ المالي الزهيد الذي ينتهي بمجرد لمسه، فلا سلطان ولا جاه وإنما هو إدعاء وافتراء لجلب نظر الناس إليها، فلا تملك الشيء الكثير من المقومات الفيزيائية والجمالية لكسب ود واستحسان الكثير من الركاب الذين لا تعرف الكثير منهم حتما، فاتخذت من هذه الطريقة وسيلة لهذا.

 

"ظاهرة مرضية... وفقاعات متطايرة لا غير"

 

    إنها ظاهرة مرضية استفحلت في مجتمعنا، يتخذها العديد من الأفراد لإضافة ألف ولام التعريف إلى شخصهم، لأنهم بقوا نكرة من دون تعريف، لا من ينظر إليهم ولا من يخاطبهم، فأصبح الجاهل منهم مثقفا والبطال عاملا يقبض أجره بالعملة الصعبة، الضعيف فيهم الذي يخاف حتى ظله أصبح "رجلة"، وشم على ساعديه، أسماء من نحرهم، ينظر من حوله منتصب الأدنين، مخاطبا الأفراد أيها البشر إنني هنا أنظروا إلي، لكنها في الأخير مجرد أعجاز نخل خاوية، وصلات موسيقية مللنا الاستماع إليها، لأن العازف فيها شخص مبتور الشخصية، فلم يبق منها إلا اسمه.

 

إن هذه الفقاعات التي لامست عنان السماء أصبحت المغذي الرئيسي للعديد من الأفراد،  بل لم يبق الواحد منهم "معروفا" في ميدانه فحسب بل له معارف أينما يولي وجهه، لأن على حد قوله فإن وجبة غدائه مع شخصيات كبيرة في المجتمع ذوي نفوذ لا حدود لها، أما وجبة العشاء فهي في أغلى الوجبات وأبهرها، فهو ذلك الفرد الذي جال البحر والبر معا، يعرف كل الثقافات والحضارات حتى بالأرقام، لأنه زار الكثير من البلدان والأقطار، لكن في الحقيقة زارها من تحت سقف منزله في أحلام يقظته.

 

 

 

لم يقف الحد كذلك عن الافتخار بالمنصب والمال وإن كانا معدومين، لذا الكثير من الأشخاص، بل وصل الحال بالكثير منهم إلى الاعتزاز والتباهي بالأصل، فيتحدث الكثير منهم أنهم السكان الأصليين لهذا البلد حالهم كحال الهنود الحمر في أمريكا، يرون أن لهم الأولوية في كل شيء، لأنهم هم السباقون للوجود، لكن وفي المقابل هذا وللأسف فهم المتأخرون عن العمل وحتى وإن كان هذا الأخير شرفا، يتداولون النكات  جماعات جماعات عند قارعة الطريق ، يتغامزون على الطالع والنازل من ذكر وأنثى، بقيت عقولهم محصورة  ماعدا في الملبس و"استايل" وتفاهات الأمور.

 

   لكن ومهما يكن، فإن البشر يخضعون إلى قانون طبيعة واحد، فالأصح في التفكير أن الأفراد يقاسون بأخلاقهم وليس بأصلهم، ففي الأخير البشر ليسوا ملزمين باختيار أصلهم، لكنهم ملزمون باختيار أخلاقهم.