لم تكن ثمة مفاوضات متكافئة بين موريتانيا والأوربيين بشأن الصيد البحري، فمبدأ الندية ظل، عبر عقود، غائبا في كل تلك الجولات التفاوضية الشبيهة بالمسرح الدرامي المُـمل.أنْ نكون ندا فعليا للأوربيين، نـُـجادلهم، نفنــّــدهم، نحاجـِــجـُـهم،
نفرض عليهم، نأخذ منهم ونعطيهم، أمرٌ كان، قبل سنوات قليلة، أقرب إلى الخيال العلمي منه إلى الواقع. الآن وقد شمّرت موريتانيا عن سواعدها، وصبرت وصابرت، وأماتت في وجدانها عـُـقد الدونية، ها هي تجني لأول مرة ثمار جهودها لتبرهن للعالم أنها موجودة بالفعل، وأنها قادرة على الدفاع عن مصالحها الحيوية، وأنها لن تركع إذا تعلق الأمر بقضية سيادية. لقد تجسد ذلك بشكل ملموس في اتفاقية الصيد العويصة الموقعة مؤخرا. فموريتانيا تسلحت خلال مفاوضاتها مع الأوربيين بما يكفي للمواجهة الشرسة، فضم وفد مفاوضيها خبراءً وأصحابَ كفاءات عالية ومُـفـَــوّهين من العيار الثقيل، شجعتهم في مساعيهم إرادة سياسية قوية أعطت كل الضمانات من أجل التوصل إلى اتفاقية تستجيب لتطلعات الدولة والشعب في مجال ترشيد الثروة البحرية وعصرنة تسييرها. هكذا أظهرت الدولة تماسكها في وجه الضغوط الأوربية وثباتها على موقف صارم لا يتزعزع. وكان من أهم المؤشرات على ذلك أنها لم تبوّب في الميزانية على عائدات الصيد الأوربي موفرة الغطاء السياسي اللازم لفريقها المفاوض مما اضطر الأوربيين على تغيير فريقهم المفاوض، خاصة رئيسه المخوف سيزاري روبيرت، وذلك قبل أسبوع واحد من الاتفاق لمّا تبين لهم صلابة موقف موريتانيا وخبرة مفاوضيها بقيادة كبيرهم، مستشار وزير الصيد: الشيخ ولد بايه (عمدة بلدية ازويرات).نعم، ها هي عجلة البلاد تدور بخطى واثقة على السكة الصحيحة دون ارتجاف ودون خوف، تأخذ زمام الأمر بيدها، وترفض صراحة أن يتم التلاعب بمصالحها ومقـدّراتها. إنه تحول جذري في العقلية السياسية التي تغيرت كثيرا في اتجاه الصرامة والجدية، مما أبعد قطاع الصيد، الحيوي جدا، من أن يظل مجرد ثروة منهوبة من طرف الأجانب، لا يستفيد منها غير ثلة من الخواص. لقد وضعت الدولة الموريتانية كل ثقتها في مفاوضيها الأكفاء الذين جعلوا الأوربيين يفهمون، في سابقة تاريخية، أن حرمة المياه الموريتانية لم تعد منتهكة كسابق عهدها، وأن صيد الأخطبوط والصردينال في مياهها ليس بهذه البساطة بعد أن ظل أهم عنصر عرقل الاتفاق لمدة 14 شهرا. هكذا تحققت المكاسب الكبيرة على يد لفيف المفاوضين المنطلق من وعي حكومي راسخ بأن مصلحة البلد فوق كل اعتبار. ولعل من أهم تلك المكاسب منح العمالة الوطنية 60% من الفرص وتعزيز الرقابة على المياه والثروة من خلال تحسين الشروط الضامنة لحمايتهما. وقد اتضح أن التطمينات التي أعطاها البعض للأوربيين من أجل عدم التوقيع على أساس أن الدولة سترضخ لمطالبهم ليست أكثر من هراء. فها قد انتهت المفاوضات الشاقة وتم توقيع اتفاق يصب كله في مصلحة موريتانيا دون أن يتواصل رئيس الدولة بأي مفاوض أوربي على غير عادة الرؤساء الذين كانوا "يستسلمون" لضغوطات الأوربيين على حساب المصلحة العامة. هذه المرة أعطى رئيس الجمهورية تعليماته ووضع ثقته كاملة في الوفد الموريتاني المفاوض وترك له حرية التصرف حسب ما تقتضيه المصلحة وحسب التكتيك الأسلم وحسب المتاح من الخيارات الرابحة، ففشل الأوربيون في تحقيق ما عجزوا عنه عبر مسار التفاوض من خلال ممارسة الضغط غير المباشر وركوب موجة الملفات الحقوقية. لقد نجح المفاوضون الموريتانيون في توقيع ابروتوكول حافظ للبلاد على سيادتها، وأرغم الأوربيين على الشروط التي تقدمت بها الحكومة لتأمين مستقبل ثرواتها البحرية. كما نجحوا في تحديد مناطق ممنوعة على السفن الأوربية الكبيرة بغية السماح للصياديين الموريتانيين باستغلالها. وأكثر من ذلك نجحوا في فرض التفريغ في الموانئ الموريتانية دعما للزوارق الموريتانية وللحمّالين الموريتانيين. وفي سيل النجاحات الباهرة، لا يمكن للفقراء في موريتانيا إلا أن يعتزوا بما توصل إليه المفاوضون من إلزام السفن الأوربية بتخصيص 2% من الأسماك المصطادة لموريتانيا بغية توزيعها على المحتاجين داخل البلد. إنه لنجاح باهر لم يُـعرف له مثيل في تاريخ المفاوضات الموريتانية الأوربية، فموريتانيا تنتظر الآن دخلا يصل 100 مليون يورو سنويا وتخفيض الكمية المصطادة من الأسماك من 300 ألف طن إلى 225 ألف طن سنويا. إنها مكتسبات جليلة تستحق التنويه المزدوج: بالإرادة السياسية لهرم السلطة من جهة، وبكفاءة المفاوضين من جهة أخرى.