"إن تعطل إبداع الأمة مؤشراً على احتضارها، فتصبح عبئاً على الحضارة الإنسانية وتطورها "- هيغللم يكن يوما ميدان الثقافة مطلقا في هذه البلاد بأقل عطاء و ضبابية و انحسارا و أضعف تمثيلا للبلد من المرحلة الراهنة. و لم يكن المثقفون في ساحة البذل المنوط بهم و الإنتاج الموكل إليهم بأقل حماسا و أنضب معينا مما هم عليه و قد وطئوا في غفلة منهم الأرض الزلقة في منطقة الميوعة و الكساد الفكري جرفهم إليها تيار العولمة المغالط وغشاهم بأتربته الملوثة.
و لم تسلم جل المحاولات القليلة عددا و المفتقرة كلها إلى روح الإبداع و قوة الإقناع أن تفلح في تخطي عتبة الخطر الداهم و أن تصرف - و لو بشق اهتمام من أضعف الإيمان برفع المستوى إلى أقل درجات الدفاع الذاتي - الهِمَمَ إلى حد ترجمة الجهود المبذولة إلى أدنى حيز ممكن يضعف من سطوة الإنتاج الثقافي القادم من خارج الحدود و تحمله كل وسائط الاتصال و الإعلام التي انتشرت من حولنا معبأة بكل رسائلها المشفرة و المعلنة عبر أثير تحرر هو كذلك من كل قيود الزمان و المكان.
و الغريب العجيب هو ما يلف هذا الضعف الماثل، للساحة الثقافية و غياب عطائها على أرض الواقع و في كل فضاء الإنتاج، من جرأة على التغني و في نشوة المخمور بالأمجاد، التي و إن صحت في مجمل القوة المعطاة دون رقيب أو ممحص، فهي لأمة قد خلت لها ما كسبت و للمتغنين ما كسبوا.
و إنه التغني بالأمجاد الذي سرعان ما يشل بالنشوة الزائفة عن الحراك في حاضر ذِكْرِه عن مستقبل متناوله و الاستفادة منه دافعا إلى التجديد و البذل الذي تمليه صيرورة التطور و ضرورة الالتحام بمتطلبات التحول الذي لا يعرف الهوان و لا يحتمل التوقف.
و فيما يختلط حابل واقع الجمود المرير بسبب الشلل الثقافي، الذي لا تخطئه عين ثاقبة و عقل حر متجرد، و نابل التحول الجارف من حولنا، فإن غياب غربال الوقاية الضروري للاحتماء لا يعدو كونه دافعا قويا إلى اهدار فرصة التنقية المفترضة بوجوده و سببا خطيرا لوضع البلاد أمام سيل جارف من اختلاط المفاهيم و ضياع الخصوصيات و انتفاء قدرة التميز و الإثراء و التأثير الإيجابي.
و لا عجب في ظل هذا الواقع الذي يبدو أنه لا يوخز ضميرا حيا أو يستجدي إرادة نقية، أن تتعدد مظاهر العهر الثقافي و الزندقة الفكرية و أن ترضخ الإرادات الضعيفة و العزائم الخائرة في أوساط الطبقة المحسوبة جورا على الثقافة لسطوة الغلو بكل أوجهه و تجلياته.
ثم لا غرابة في أن يكسد سوق العطاء المعرفي و أن يترك زمام المبادرة لهذا الفكر القادم بشططه و عنفه حتى يجند لأجندته ما يحلو له من أفراد الشعب و يهيئهم لحمل رسالاته و فرض قيمه و خطابه و فلسفته. فأي فكر لهذه التيارات لا يملك اليوم موطئ قدم على هذه الأرض؟ اللهم ما يكون من حيز "مربد الشعراء" المطلقين منذ أمد مع الالتزام بالقضايا الوطنية الكبرى و خصوصياته المميزة.
و لأن وسائط الإعلام و وسائله هي التي تلعب في كل أصقاع الدنيا من حولنا دور الموصل لأصوات الاهتمامات و أصداء الثقافة و هي المعين صوتا و كتابة و مشهدا حيا لتجلياتها فإنها في هذه البلاد ما زالت متعثرة و تشكو حداثة السن و قلة التجربة بالرغم مما كان لها أن تقوم به فعلا و إن قل حصرا على ما هو مفترض أن يحصل على أرض الواقع بفعل طاقات خلاقة دفينة وإرادات إبداعية لا تخطئها العين ولا تنكرها الأذن قل نظيرها ولكن ساء احتضانها وأهدر استغلالها.
و بالطبع فإن هذا الضعف عن أداء الرسالة و حمل الأمانة و الهم الثقافي على إعطاء علامات التحول ناتج هو كذلك عن الركود الذي يطبع كل الحراك و انحسار عطاء المثقفين الذين هم من يوعز لهم الواقع صنع المادة الفكرية المحصنة و دفع عجلة المعارف المؤمنة للحاضر و الدافعة إلى المستقبل بمنطق الحداثة و نكهة خلفية الماضي المنقى من أدران التمجيد الزائف و المنافي لقيم و سنن التطور.
و في ظل المحاولات الخجولة لبعض الجهات التي تظهر من حين لآخر، قبل أن تغيب، للقيام بعمل جاد باتجاه كسر الجمود القاتل الذي تعانيه الساحة الثقافية لهذا البلد، غابت تماما عن المعالجات أبعاد محورية في خدمة الوفاء الثقافي و كذا السعي الجاد إلى تصحيح أوضاع هذه الساحة المختلة، و منها المضامين المتعلقة بالاختلاف و التنوع صونا لوحدة وطنية تشكو من تنافر ثقافات ظلت إلى عهد قريب تتلاقح بإيجابية مطلقة من دون أية عقد أو حساسيات تحت راية معتقد مشترك.
كما غابت أوجه أخرى بل دعائم و محركات للشأن الثقافي لا جدال حولها كالمسرح الذي قيل فيه "أعطني مسرحا جادا أعطيك شعبا واعيا" و ككل أوجه الإبداع الأخرى التي لا تقل أهمية علما بأن الإبداع و كمايقول "برتراند راسل" إنه إن تواصل يؤثر إيجاباً بأنماط حياة الإنسان وسلوكه.
هو إذا الركود الثقافي القاتل في كل تجلياته بإرادة معظم فاعليه الأول الخائرة من الطبقة المثقفة و المتعلمة و الفنية و الأدبية و قد افترضوا على أنفسهم أن لا يحركوا ساكنا و لا يرفعوا صوتا، بل و أخطر من ذلك فقد ارتهن هؤلاء أنفسهم في صفقة مع شيطان النكوص لكل تيار هدام قادم من أرض الخراب و حتى يجعلوا له موطئ قدم في خارطة المستقبل على أديم هذه الأرض.و لم يقدم في شهر رمضان المبارك الذي يوشك على الانصراف ضيفا كريما غزير مادة دينية و علمية و ثقافية رغم بعض المحاولات الخجولة من هنا و هناك و على بعض شاشات القنوات التلفزيونية و في بعض المسارح الافتراضية كساحة الفضاء الثقافي و كفضاء نقابة الصحفيين الموريتانيين في بادرة فريدة حاول القيمون عليها أن يجمعوا فيها بين المحاضرات العلمية و الأدب و الفن للإفادة و الإمتاع.