أبانت الندوة الفكرية التي نظمها المركز العربي الإفريقي للإعلام و التنمية بمقره في نواكشوط مساء يوم السبت 10 من مايو الجاري تحت عنوان "حقوق الإنسان في موريتانيا بين رؤيتين- الحكومة و النشطاء" عن اختلاف الرؤى حولها و هشاشة التعاطي السياسي و الحقوقي معها مسألة بالغة الحساسية والخطورة في ظرف دقيق من تاريخ البلد،
و كذلك عن تعارض المفاهيم و القراءات و الفلسفات و المدركات و المغزى بما لكل من خلفية و مرجعية و منطلق و وجهة و أهداف.و لما كان المحاضر الأول متمثلا في شخص مدير حقوق الإنسان لدى كتابة الدولة المكلفة حقوق الإنسان التراد ولد عبد المالك فإن العرض الذي قدمه قد تركز على أوجه التعامل الرسمي مع القضايا و الملفات المتعلقة جملة و تفصيلا بهذا الجانب الهام من سياسة الدولة العامة المندرجة تحت مظلة "الحكم الرشيد" و هي السياسة التي من المفترض أنها قائمة، و المعالجات المتبعة داخليا و على الصعيد الدولي و في أوساط المنظمات الحقوقية العالمية و الأممية لكل ما يتعلق بالتفاوت بين البشر. كما جاء هذا العرض الذي كان منهجيا في التناول، مترابط الأوصال في تسلسله و مُبِينا بالتفصيل أحداثا و تأريخا عن حصيلة من الانجازات المعتبرة التي تتنزل كلها في سياق البحث عن الحلول، المؤدية إلى إرساء دولة القانون و المواطنة، على شكل حلقات منتظمة في إطار السعي الرسمي الجاد لمواجهة الاختلالات و التجاوزات الحقوقية المقيتة التي تعرفها البلاد في دورة حياتها المجتمعية؛ و هي الحالة بهذا الوجه المسيء للحمة الوطنية التي تأخذ إجمالا كل تجسيدها و أبعادها في القضايا المؤسسة لها و قد شكلتها جملة من العوامل التي منها الداخلي المزمن الشائك و منها الخارجي المثير و المربك.و أما بعض هذه العوامل المزمنة فإنه يرجع بطبيعة الحال إلى حقب سبقت الاستعمار و مطبوعة بميسم "الشرائحية" و "الطبقية" المنظمة للمجتمع بالتقسيم إياه إلى:· فئات تسود على رأس الهرم ،· و فئات مستغلة و مزدراة في أسفل السلم،فيما برزت العوامل الأخرى مع قيام الدولة الحديثة و قد ظلت في غمرة تشكلها خارج دائرة الاهتمام السياسي الذي كان من المفروض أن يكون الدعامة الأساس و المرتكز الأول لأركان دولة القانون والمواطنة و المطلقة و الرافضة لكل ألوان الفوضى التي كانت قائمة بنيانا و فلسفة و منهجا، باستثناء ما كان قد أودع نظريا من مواد منقولة حرفيا عن الدستور الفرنسي حول المساواة و نبذ الرق و تجاوز التفاوت الطبقي في الاعتبار و الأدوار و المكانة، و هو الدستور الذي تمخض عن ثورة أصحابه الفرنسيين في العام 1789 و إعلان حقوق الإنسان و المواطن La Déclaration universelle des droits de l’homme et du citoyen الإعلان الذي أصدرته الجمعية التأسيسية الوطنية في 26 أغسطس1789 و يعتبرمن وثائق هذه الثورة الأساسية تُعرَّف فيها الحقوق الفردية والجماعية للأمة و من ثم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي هو وثيقة حقوق دولية تبنته الأمم المتحدة 10 ديسمبر 1948 في قصر شايو في باريس و يتحدث عن رأي الأمم المتحدة في حقوق الإنسان المحمية لدى كل الناس و نصت أولى مواده على أنه يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلاً وضميراً وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء، و ثانيها أنه لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان، دون أي تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو الميلاد أو أي وضع آخر، دون أية تفرقة بين الرجال والنساء. وفضلا عما تقدم فلن يكون هناك أي تمييز أساسه الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي لبلد أو البقعة التي ينتمي إليها الفرد سواء كان هذا البلد أو تلك البقعة مستقلا أو تحت الوصاية أو غير متمتع بالحكم الذاتي أو كانت سيادته خاضعة لأي قيد من القيود، و الثالثة أنه لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه، و الرابعة أنه لا يجوز استرقاق أو استعباد أي شخص، ويحظر الاسترقاق وتجارة الرقيق بكافة أوضاعهما.و لما كان المحاضر الثاني الوزير السابق الشيخ أحمد ولد الزحاف و السفير نائب رئيس المجلس الدولي لدورة حقوق الإنسان المنعقدة عام 2013 بجنيف، فإن عرضه الذي لا يقل منهجية عن الذي سبقه قد انصب في مجمله حول المهام الحقوقية التي كان كلف بها و أداها بإيعاز من رئيس الجمهورية الحالي محمد ولد عبد العزيز و التي تمحورت حول استجابة موريتانيا لكافة الدعوات الأممية للانخراط و التوقيع و التعاطي العملي مع العقود و المعاهدات و المواثيق الدولية حول القضايا ذات الصلة بحقوق الإنسان. و هو العرض المدعم في كل أوجهه بالوثائق الموقعة و المؤصلة بالتواريخ و الترجمات و الزيارات و الحضور و المشاركات في المؤتمرات، و بمحاضر مفصلة عن المراسلات و المحادثات و المشاورات و المرافعات عن البلد في وجه الاتهامات التي أخذت مع بعض الجهات مناحي مفرطة، مغرضة و لم تسلم من الغرضية حسب ما أورد السفير في سياق طرحه.و قد كان للعرض الثالث الذي جاء، بعدما تساءل صاحبه عن ما هو المطلوب منه تحديدا في هذه الندوة، أقرب إلى المداخلة ذات الطابع التأطيري حول مسألة حقوق الإنسان مفهوما واضح الدلالات و إطارا محدد الغايات و بارز المعالم لتجد في خضمه كل قضايا الوطن المتفاوتة في السياق و الاعتبار، الإطار اللائق لمعالجتها و تحديد المواقف اللازمة حولها و اتخاذ القرارات الصائبة و المترتبة عليها. فقد وفق الدكتور محمدو ولد محمد المختار و الأستاذ الجامعي فيما قدم من مقاربة حول حقوق الإنسان و كيفما اختلفت أطياف المجتمع الموريتاني سياسية و حقوقية و مراقبة و مستفسرة حول مفهومها و التعاطي مع مدلولاتها و حقول تطبيقاتها، ليخلص إلى أن البلد بحاجة ماسة إلى الاستقرار و التوافق حول الحلول الملائمة لهذه الاختلافات التي تأخذ في بعض أوجهها منعطفات تتسم بالحدة و الشطط ما يهدد السلم الاجتماعي و استقرار البلد.و تدخل من بعد الثلاثة، ناشطون في أطر حقوقية مختلفة باختلاف المشارب و المساعي، اعترضوا على الجزء الأكبر من القيمة العامة للطرح في العروض و اعتبروها لا تعالج المسألة الحقوقية في أبعادها المتعلقة بملفات الرق و المبعدين و شرائح المجتمع المهمشة.و لم يفت الناشط الحقوقي عبيد ولد إميجن توجيه اللوم إلى المحاضرين بما اعتبره في العرضين الأول و الثاني مغالطات كبيرة و تنظيرا معدا بمنهجية لمعالجة نظرية و صورية لقضايا شائكة أهلها ضحية مفاهيم تسلطية و تهميشية. و قد ذهب هذا المتدخل الرابع فيما أفاض به معقبا أكثر على المحاضرين الذين سبقوه، و مؤكدا أنه على العكس مما ورد من أن المنظمات الأممية و أخرى عالمية أفصحت عن رضاها بما كان من تجاوب موريتانيا إيجابيا و معترفة لها على خلفية ذلك بأنها حققت فوق أرض الواقع نتائج بالغة الأهمية و أنها استطاعت أن تقلص مساحة العريضة المطلبية لكل الجهات الناشطة في النسيج العام للدولة. و لما كان هذا ما أكد عليه هؤلاء المحاضرون فإن ولد إميجن أيضا قال جازما في منحى آخر أن موريتانيا لا تزال في صدارة الدول التي تعاني فيها شرائح كبيرة من الظلم و الإقصاء و الاحتقار و التهميش. كما أكد الناشط على أن الدولة على الرغم من كل ما أدلى به المحاضرون الثلاثة الذين سبقوه ما زالت مصنفة من طرف المنظمات الدولية الحقوقية العالمية بلدا يمارس فيه الرق و تعاني فيه شرائح من الميز بوجهيه العنصري و الطبقي. و لاقى هذا الطرح استحسانا و قبولا و تأييدا من أغلب الحضور لأنه قد وقع عليهم كما يقع الحافر على الحافر.و حمل المتدخل الخامس "وان مامادو" - الناطق الرسمي لمسيرة العائدين من السنغال التي انطلقت من بوكي باتجاه نواكشوط و في جعبتها مطالب حقوقية متعددة - الشرطة مسؤولية تفريق المسيرة و ما آلت إليه جازما بإنها كانت سلمية تطالب بحقوق منها على وجه الإلحاح الحصول على الوثائق المدنية و استرجاع أراض قال إنها مغتصبة، دون أن يتطرق إلى ما قالت السلطات إنه مساس بالأمن و إخلال بالنظام العام قد أسفرت عنه المسيرة عند وصولها إلى نقطة ملتقى مدرير و على أيدي دخلاء من الأجانب حولوا وجهة المسيرة عن أهدافها و أشاعوا قدرا من الفوضى طال ممتلكات بعض المواطنين و هدد أمنهم.و لم تكن التعقيبات من بعض الحاضرين بأقل حدة و لا تمردا و اتهاما بغياب العدالة الاجتماعية في البلد و بأن حقوق شرائح من المجتمع الموريتاني المغبونة و المهمشة مهدورة بما يخالف مقتضيات العدل و المساواة في ظل دولة يفترض أنها دولة القانون و المساواة.و مما لا شك فيه أن هذه الندوة بما أتاحت من مساحات حرية التناول أفصحت عن عمق الشرخ حول المسألة و قوة الخلاف بكل أوجه التأويلات المفاهمية و السياسية و الاجتماعية لمسألة بالغة الأهمية و الخطورة في آن واحد، و كذلك عن تعارض لا يرقى إليه الشك بين الدولة التي تناولت المسألة عمليا في حيز ضاق عن "النشطاء" و بين هؤلاء الذين يتهمون الدولة بعدم الأهلية لذلك الدور الذي يستأثرون به لأنفسهم اعتمادا على معتقد راسخ بأنهم دون سواهم هم الأولى به و الأجدر. و هو التعارض إذا الذي يضع البلاد و أهلها في دوامة التنافر السلبي و يؤجج نار الخلافات و يعمق شرخ تعارض الحلول و يجعل الصف الثالث يتساءل بحسرة و توجس عما إذا كانت مسألة حقوق الإنسان في هذه البلاد... إخطبوط أعماق أم سحابة صيف؟