خرجت الولايات المتحدة الامريكية من الحرب العالمية الثانية لتكون أول دولة على مستوى العالم، مما مكنها من التحكم في صياغة القوانين الدولية المعنية بالتجارة العالمية, حيث أنشأت الاتفاقية العامة للتعرفة الجمركية والتجارة (الجات سنة 1947) والتي تطورت إلى ما يعرف اليوم بمنظمة التجارة العالمية WTO سنة 1995 وهي مختصة اساسا بتطبيق القوانين والقواعد الدولية المعنية بتجارة البضائع والسلع بين الدول وتضم 160 دولة عضو.ِ اليوم وبعد مرور 70 سنة حصل تغير كبير في بنية اقتصاد الدول المتقدمة حيث أصبحت تجارة الخدمات تشكل أكثر من 70% من إجمالي الناتج المحلي GDP لها, لذا تسعى هذه الدول وعلى رأسهاأمريكا لمراجعة قواعد التجارة العالمية حيث تشرف الولايات المتحدة الامريكية الآن على مفاوضات ثلاث اتفاقيات عالمية: - الاتفاقية العامة للتجارة في الخدمات GATS؛ - الاتفاقية حول الشراكة التجارية والاستثمارية عبر المحيط الأطلسي TTIP؛ - واتفاقية الشراكة الاقتصادية الإستراتيجية عبر المحيط الهادئ TPP. وعند نجاح هذه الاتفاقيات تكون أمريكا استكملت استراتيجيتها الجديدة للتجارة العالمية التي تشمل اوروبا و دول جنوب شرق آسيا وكندا واستراليا مطلقة بذلك الرصاصة الاخيرة على منظمة التجارة العالمية ومخرجة الصين من نظام التجارة العالمي الجديد بعد ماكانت تعد من ضمن اكثر المستفيدين من نظام التجارة العالمي الحالي. وعلى مستوى حرب استراتيجيات أنابيب نقل الغاز العالمية, تدعم امريكا بقوةانشاء خط لنقل الغاز من تركمانستان إلى الهند مرورا بأفغانستان وباكستان ,وتعتبر تركمانستان (رابعة اكبر احتياط عالمي )أكبر مصدر للغاز الى الصين عبر اطول خط لنقل الغاز في العالم (8653 كيلومتر) حيث بلغت صادراتها من الغاز للصين سنة 2014 (30 مليار م3 )ومن المتوقع ان تصل الى (65 مليارم3 ) بحلول 2016 م وتغطي هذه الكمية حاجيات 600 مليون صيني من الغاز . واحبطت امريكا والسعودية انشاء خط انابيب كان سيربط كل من ايران(ثاني اكبر احتياط عالمي) و باكستان والهند وذلك بعد ما دفعت السعودية مبلغ 1.5 مليار دولار لباكستان وتعهدت امريكا للهند بمساعدتها في استيراد الغاز الطبيعي المسال من قطرو بناء مفاعلات نووية لتوليد الطاقة والاعتراف بها كدولة نووية كبيرة. وكان ممكن لهذا الخط ان يصل الى الصين عن طريق باكستان معلنا بذلك ارتباط مصالح هذه الدول الاربعة بالإضافة الى روسيا (اول احتياط عالمي),مما كان سيشكل تهديدا حقيقيا للمصالح الامريكية في آسياوربما على مستوى العالم كله. كما احبطت امريكا والسعودية انشاء خط انابيب كان سيربط ايران باوروبا مروراً بالعراق وسوريا عن طريق تدميرسوريا تحت مسمى "الربيع العربي" هذا الخط كان سيتيح للصين امتيازات اكثر في التفاوض مع روسيا المصدر الاول للغاز في الأسواق الأوربية وذلك بعد دخول ايران على الخط كمنافس لها. من المعروف ان نموذج الاقتصاد الصيني يعتمد على استراد الطاقة والمواد الاولية و تصدير المواد المصنعة لذلك لابد للصين من ان تضمن تأمين مصادر الطاقة و تضمن كذلك وصول البضائع الى الاسواق العالمية, وقد حشرت استراتيجيات العم سام حول التجارة الدولية والطاقة المذكورة اعلاه الصين في الزاوية. لكن الرد الصيني جاء سريعا, لقد أطل علينا الرئيس الصيني شي جين بينغ من جامعة نزارباييف بكازاخستان في 7 سبتمبر 2013 معلنا للعالم عن مشروع القرن "احياء طريق الحرير البري والبحري" وذلك عن طريق اقامة خطوط سكك حديدية فائقة السرعة عابرة للقارات تربط بين الصين وأوروبا من جهة والصين ودول جنوب شرق آسيا من جهة أخرى. حيث سيربط الخط الأول (الأوراسي) شمال شرق الصين بإنجلترا مرورا بروسيا وألمنايا وفرنسا. الخط الثاني (خط آسيا الوسطى) يربط شمال غرب الصين اقليم شينجيانغ بألمانيا مرورا بكل دول آسيا الوسطى وايران وتركيا. الخط الثالث يربط جنوب غرب الصين بسنغفورا مرورا بالفيتنام و مليزيا ..الخ ومن المتوقع أن يبلغ طول هذه الخطوط الثلاثة مجتمعة حوالي(40000كم ) بالاضافة الى (12000كم) يتوقع انشاؤها داخليا لربط المدن الصينية في حلول 2020 م. بالإضافة الى اقامة وتطوير عشرات الموانئ التي تقع على طريق الحرير البحري والذي يربط العديد من مدن العالم الساحلية خاصة في منطقة الخليج العربي و شرق أفريقيا و شرق وجنوب آسيا. إن حرب الاستراتيجيات هذه ستخلق فرصة تاريخية لبلادنا لسببين رئيسيين هما الموقع الجغرافي لبلادنا وامتلاكها للحديد الخام ذو النوعية الجيدة حيث تمتلك احتياطي معلن يصل إلى (1.2مليار طن) من الحديد، والذي يعتبر المادة الأولية لإنتاج انواع الفولاذ المختلفة المستخدمة في مشاريع البنية التحتية ,وعليه يمكننا السعي مستقبلا إلى استغلال هذه الظرفية التاريخية الدولية الخاصة لحسابنا خاصة على صعيد المحاور التالية: 1-التعاون في مجال استكشاف واستغلال وتصدير الحديد الخام الذي ستكون الصين في امس الحاجة اليه لإنشاء مشاريع البنية التحتية الضخمة التابعة لمشروع طريق الحرير الجديد هذا. مما سيمكن اسنيم من تحقيق حلمها بالانضمام إلى الخمس الأوائل لمصدري خامات الحديد في أفق 2025 م. 2-السعي الى توطين صناعة الصلب وتطوير صناعة التعدين في بلادنا مما سيخلق عشرات الالاف وربما مئات الالاف من فرص العمل ويعزز القوة التنافسية لبلادنا في سوق المعادن الدولية ونحن نعتقد ان هذه الفكرة ستلقى دعما من الجانب الصيني لعدة اسباب يضيق الوقت عن ذكرها. 3-استغلال الموقع الجغرافي لبلادنا كهمزة وصل بين دول المنطقة من خلال منطقة انواذيبو الحرة لتكون محطة تجارية رئيسية في مشروع القرن هذا ,بحيث تتولى بلادنا نقل البضائع عبر اراضيها الى دول الجوارمما سيخلق الكثير من فرص العمل وحركة اقتصادية يمكنها تشجيع المستثمرين العالميين على الاستثمار في مجال تطوير الطرق السريعة وربما السكك الحديدية في بلادنا. 4-تفعيل اتفاقية مشروع خط السكة الحديدية الرابط بين كيهيدي –انواكشوط والتي وقعها وزير النقل سنة 2008 م مع المدير العام لبنك الواردات والصادرات الصينى والتي بموجبها كان سيقدم البنك المذكور حوالى 686 مليون دولار امريكى لتمويل انشاء هذا الخط البالغ طوله 430 كم. 5-امكانية تصدير الغاز الموريتاني مستقبلا الى الصين حيث بلغ استهلاك الصين من هذه المادة سنة 2014 حوالي( 180 مليارم3) ومن المتوقع ان تصل هذه الكمية الى (400مليار م3) سنة 2020 خاصة مع سعي الحكومة الصينية الى احلاله محل الفحم الحجري كمصدر أولي للطاقة وذلك لتخفيف تلوث الهواء الذي تعاني منه جل المدن الصينية. ان نجاح مشروع طريق الحرير الجديد هذا لن يمكن الصين من فك الحصار الأمريكي عليها وحسب بل سينهي خمسة قرون من سيطرة الاوربيين والامريكيين من بعدهم على نقل التجارة العالمية عبر البحار فالسرعة الفائقة للقطارات الصينية (605 كم/ساعة) ستجعل 48 ساعة فقط تكفي لقطع المسافة بين الصين واوروبا بينما تحتاج السفن الى حوالي شهر وذلك ما سينقل المنافسة بين القوى العظمى من السيطرة على المضايق البحرية الى المنافسة على المناطق القارية الجيوستراتيجية والتي تعتبر بلادنا إحداها وربما كان هذا من ضمن أسباب اهتمام القوى العظمى ببلادنا في السنوات الاخيرة. والله اعلم