في مطلع تسعينيات القرن العشرين كانت جدتي على فراش الموت، وصدام يصد "عاصفة الصحراء"، الفرنك الفرنسي تكفيه عشر أواق، وكان الموريتاني يدخل باريس دون تأشيرة، كان فرانسوا ميتران منهمكا في إعداد "دمقرطة لابول"، كان ولد عوه غارقا في تنظير عذري استله بسلاسة من ذاكرة "إمارات البيظان"، وكان "فوكوياما" قد بدأ العد التنازلي "لنهاية التاريخ"، وأدونيس يعلن بجرأة وقحة في دار الشباب القديمة ضرورة "قطع الرأس العربي ثقافيا".. وكنت، أنا، ألج باب "التحدي" على رصيف الشارع المطل على الثانوية الوطنية، حيث كنت مسجلا للعب الكرة وقراءة الفلسفة، وإنشاد الشعر، وتوزيع أكياس الفوضى على أساتذتي...
كان رأسي العنيد يحتضن بعنفوان قيم اليسار الديمقراطي وحتميات المسواة؛ فبدأ مرق الرفض يداعب ثغري المحتشم.. كانت أشياء كثيرة تحركنا بسرعة تفوق منطقنا المترف في اشتعال طاقة؛ تتجدد فتقصف، تارة بالطباشير وتارة بالحجارة، وتارة بالإحجام!في ساحة الثانوية الوطنية خلف فصلنا المطل على ممر مكشوف يؤدي إلى بيت حارس الثانوية، الذي كان أكثر بنا رأفة من المدير وكاتبات المراقب العام؛ ساحة اسفلتية تتنازعها مباريات الكرة الطائرة وتجمهراتنا الرافضة؛ ولأي سبب، كنا أصدقائي وأنا "نخطب" حتى نترك حناجرنا في وحدة الساحة الموحشة طيلة عطلة الأسبوع.غير بعيد، في المركز الثقافي السوفيتي، حيث حل لاحقا أول حزب علني للمعارضة في موريتانيا، أتقن فنون كرة المضرب، وأكمل ملحمة "الإخوة كرامازوف"، بعد امتطاء "مغامرات جاسم" بالمركز الثقافي السوري، وفي بيت أبي كنت قد اقتحمت امبراطورية "لسان العرب"!أثناء تصويت الموريتانيين على "دستور التعددية"، كانت أمي تحلم بهزيمة الدكتاتورية بكتائب "عهد جديد"، وجيلي بمحاكمة "التاريخ" الذي كثيرا ما نثرنا على ذكراه حزنا، وقلقا، وغضبا كان يطال المجتمع رشقا و "عقوقا" كاد يعصف بثوابت الأمة!كانت أمي تحرضنا على الرفض، كي نسلم من مصير "شرطي الخليج" أو "مشعوذ الجنوب"، في لامبالاة ورعة من والدي الذي انتسق نومي وصحوي على وتيرة تلاوته الجميلة، وصداقته الشاعرية...من جوف الرفض؛