ربما لم تمر الأمة العربية بنكبة أشد مما هي فيه اليوم من ضياع وتمزق واقتتال وتراجع كبير على كل المستويات، وفي المقدمة منها انحطاط وسقوط ما يسمون أنفسهم الانتلجنسيا العربية، أي “النخبة”، أو ما أحب تسميتهم أنا “النكبة”.
فعلى مدى السنوات الخمس الماضية تكشفت لنا حقائق كبيرة وكثيرة كانت مخبأة في صوالين “الميك آب” وأروقة دكاكين الشعارات البراقة، من منظمات وتجمعات وأندية واتحادات وهلم جرا من صوالين نخبتنا المزيفة التي تعرت على أبشع صورة انتهازية وأنانية مفرطة.
نخب كان ينظر لها الناس على أنها حصن مناعتهم من الظلم والاستبداد، فإذا بهم يتحولون إلى سياط في يد الجلادين والسحرة والدجالين، نخب تعرت عن أبشع أشكال الابتذال والسقوط الأخلاقي أمام شعوبها وأمتها التي كانت تعول عليها كثيرًا.
فما الذي جرى يا ترى لهذه النخب؟ ما الذي أصابها وحولها إلى دمى متحركة، بعد أن كانت النخب العربية على امتداد التاريخ العربي الحديث والمعاصر هي صانعة التغيير ومصدره الوحيد؟ ماذا أصابها يا ترى؟ هل لذلك علاقة يا ترى برداءة المحتوى الثقافي أم التنشئة الأيديولوجية أم الانتماءات الحزبية؟ أو ماذا؟
أسئلة كثيرة بحاجة إلى إجابات عميقة ودقيقة، ولكن لا يفوتنا هنا أن نعرض لبعض صور هذا السقوط القيمي والأخلاقي لنخب المشهد الراهن، من النخب الدينية فالثقافية فالسياسية فالحزبية.
ففي الحالة اليمنية مثلًا، كانت النخبة هي صانعة التغيير والثورة، بل إن الثقافة والفكر هما مادة الثورة المباشرة في الصراع السياسي في اليمن صراع التغيير والتحرر؛ فكانت الثورات اليمنية جلها ثورات فكرية ثقافية بشكل مباشر.
فظل اليمن مهدًا لثورات فكرية فترة من الزمن، منذ رواد الثورة الفكرية اليمنية وروادها الأوائل كأبي الحسن الهمداني ونشوان الحميري وجماعة المطرفية والمقبلي والجلال والشوكاني والزبيري والنعمان والوريث والحكيمي وقاسم غالب، وغيرهم الكثير.
ناضل كل هؤلاء بالفكر والقلم قبل أي شيء آخر، وهيؤوا الأرضية المناسبة للثورة، وهي التي أثمرت ثورات 1948م وسبتمبر 1962م وأكتوبر 1963م، وحققت كل تلك الثورات نجاحات نسبية كانت كل ثورة تكمل التي قبلها، حتى جاءت ثورة فبراير 2011م فبدل أن تستكمل أهداف تلك الثورات العظيمة إذا بها تختطف لتنقلب على كل تلك الثورات السابقة.
لقد ساهمت النخبة اليمنية بدور كبير في عملية الاختطاف الذي تعرضت له ثورة 11 فبراير 2011م، بفعل عملية التسطيح والتدليس والانتهازية المفرطة لتلك النخبة التي نكاية بخصومها فضلت عودة نظام الكهنوتية الإمامية الذي ناضل اليمنيون للقضاء عليه قرونًا من الزمن؛ وهمًا منها أنها ستقتسم معه مكافأة صمتها تجاه غول لا يؤمن بشيء سوى خرافة أحقيته بالحكم.
كنت أقف مستغربًا مما يجري حولي من مواقف وأحداث، وموقف النخب تجاه تلك الأحداث من منظور موضوعي مهني بحت يقتضي قول الحقيقة كما هي مجردة، لكن العمى الأيديولوجي والنرجسية القاتلة كانت تقتضي تماهي هذه النخب في مشهد موبوء بعهر سياسي فاضح ومكشوف.
صمت الجميع أمام مشهد تدمير رمزية الدولة البسيطة والهشة، صمتوا تجاه ضرب جيشها وأمنها ومؤسساتها وأخرجوا مبررًا لذلك الصمت بأن من واجب الدولة أن تحايد تجاه الصراع الذي كان يستهدف تقويض الدولة ذاتها المطلوب حيادها.
مثل هذا المشهد الذي جرى في اليمن تكرر في عديد العواصم العربية لنخب محنطة ومتكلسة من كل التوجهات القومية والإسلامية والنيوليبرالية واليسارية، وكلها صمتت وساهمت بشكل كبير في تدمير حلم قيام دولة وطنية بسيطة وبأبسط صورها من أمن وقانون وعدالة مختلة.
فالتاريخ نقول له إن الذي وقف في وجه ثورات الربيع العربي المنادية بالحرية والعدالة هم دعاة الحرية والعدالة، هم النخبة التي ضجتنا بتلك الشعارات الكاذبة والمزيفة التي ظلت ترفعها زمنًا طويلًا تسترزق بها منظمات أوروبا وأمريكا وتقايض بها الجلادين منافعها معهم.
لقد تحول المثقف العربي إلى مجرد آلة حسب الاستخدام، لقد انكسرت تلك الصورة الحالمة والجميلة للمثقف العربي الثائر والضاج في وجه الظلم والاستبداد، لقد تزيف الزمن العربي، وتحول العربي إلى صورة ممقوتة، في هذه المرحلة حينما ترى صورة العربي مكسورة ومهزوزة أمام أنظار العالم كله في هذه المرحلة التي تحول فيها العربي لـ”قواد” على أمته وهويته وعروبته من فرط نرجسيته وأنانيته.
فمن خلال تجربتي القصيرة والخاطفة فيما يسمى المؤتمر القومي العربي، عفوًا الإيراني مؤخرًا، اكتشفت كم هو حجم الزيف والدجل والخداع الذي تتلبسه نخبتنا العربية وهي تتاجر بعروبتها وقوميتها وهويتها مقابل نزوة عابرة هنا أو هناك.
ففي إحدى دورات هذا المؤتمر المريب، المنعقدة حينها في صنعاء قبيل ثورات الربيع العربي بعامين تقريبًا، حضر مجموعة من الإخوة العرب الأحوازيين، وكان يفترض أن يلقي أحدهم كلمة، فوجئ هذا الأخ بعدم السماح له بإلقاء كلمته في مؤتمر عربي قومي.
وكانت حجة منعه أنه عضو مراقب وليس عضوًا فاعلًا؛ فجلست معه في حديث مطول، قال كلمة لا زال صداها يترد كواقع أمامي حتى اللحظة، قال يا أخ نبيل إذا بقي العرب بهذا الحال من العمى والاستغفال سيأتي يوم تشكون مما نشكي نحن منه الآن، وكان يقصد إيران ومشروعها الأخطبوطي؛ وهاهي كلمة الأخ أحمد مولي المذحجي الأحوازي قد صدقت يا نكبة العرب ونخبتها.