في مثل هذه الأيام من العام الماضي، وفي خضم أحداث العدوان الصهيوني الغاشم على قطاع غزة المحاصر، قُدِّر لي أن أكون شاهداً على حملة جمع التبرعات الكبرى التي نظمها الرباط الوطني لنصرة الشعب الفلسطيني دعماً للمقاومة في تصدِّيها الباسل للعدوان، وعوناً لسكان القطاع على صمودهم وثباتهم البطولي في وجه الحصار والتجويع والدمار.
ويشاء الله أن تعود ذكرى هذه الحملة المباركة وأنا بعيد – للأسف - عن أرض الوطن، في الوقت الذي يُنظِّم فيه الرباط الوطني "ملتقى القدس الأول"، وهو نشاط نوعي يهدف المنظمون من خلاله إلى "تحويل القضية لدى الموريتانيين من مهرجانات ومسيرات ومظاهرات، إلى ثقافة مجتمعية يعيشونها في حياتهم اليومية"، حسب كلمة الأمين العام للرباط الأستاذ محمد غلام ولد الحاج الشيخ في حفل افتتاح الملتقى.
ولم أَشَأْ - والحال هذه - إلا أن أشارك - ولو بجهد المُقِلِّ - في تبليغ جزء من رسالة الملتقى، عسى أن أكون من الذين يصدق عليهم شعاره: "شركاء في القضية... شركاء في التحرير"، فكتبتُ هذا المقال عن أدوار الشعب الموريتاني في نصرة القضية الفلسطينية، مع التركيز على تجربة الرباط الوطني الرائدة، رجاءَ أن "يُسعِد النطق إذ لم تُسعِد الحال".
الإجماع النادر...
على مدى تاريخ الاحتلال الصهيوني لفلسطين، ظلّت نصرة القضية الفلسطينية، ومناهضة الاحتلال الإسرائيلي إحدى النقاط النادرة التي أجمع الموريتانيون، شعباً وفرقاءَ سياسيين، على وضعها فوق خلافاتهم الداخلية، والسياسية منها خصوصا، حيث اتّحد الموقف الرسمي منها بالموقف الشعبي، والْتَقَت حولها الأنظمة المتعاقبة مع معارضاتها، واتَّحدت الحركات الإيديولوجية المتصارعة في الساحة عليها، واتفق على الموقف منها العالم الشرعي والمفكر الحداثي، والمثقف الضليع والأمي الجاهل. ولم يَخْرِمْ هذا الإجماع، أو يشُذَّ عن هذه القاعدة إلا مواقف نشاز نادرة سأشير إلى بعضها لاحقا.
بدأ هذا الإجماع في التَّشَكُّل منذ الأيام الأولى لقيام الكيان اللقيط، حيث كان ممثل موريتانيا -التي كانت حينئذ (1948 م) ما تزال خاضعة للاحتلال الفرنسي - في الجمعية الوطنية الفرنسية، المعارض والمناضل الشهير أحمدُّو ولد حُرمه ولد ببانَه النائبَ الوحيد الذي صوَّت ضدّ الاعتراف بقيام "دولة إسرائيل" المزعومة، قبل أن ينسحب من القاعة احتجاجاً على القرار.
على صعيد آخر، وفي العام 1961م، رفض غريم ولد ببانَه التقليدي، الرئيس المؤسِّس المختار ولد داداه، الخضوع للابتزاز من طرف محامٍ فرنسي عرض عليه الاعتراف بالكيان الغاصب، مقابل حصد اعترافات كثير من الدول الأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة بدولته الوليدة، مضيفا إلى ذلك إدانة إسرائيل في خطابه الذي ألقاه بعد انضمام موريتانيا رسميا للأمم المتحدة. لم يتوقف الزعيم الراحل عند هذا الحد، بل قام بقطع علاقاته الدبلوماسية مع الولايات المتحدة عقب حرب الأيام الستة عام 1967م، قبل أن يُتوِّج مواقفه المناهضة لإسرائيل بشنِّ حرب دبلوماسية كبيرة ضدها عام 1973م نجحت في إقناع عدة دول إفريقية بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع الصهاينة. [جُلُّ المعلومات التاريخية في المقال مستقاة من ورقة عن "التطبيع" قدمها الأستاذ محمد غلام ولد الحاج الشيخ أمام إحدى دورات مؤتمر الأحزاب العربية، حملت عنوان: "تاريخ الخطيئة... ومسار المقاومة"، منشورة على موقع الأخبار].
على المستوى الشعبي، بدأ التفاعل مع القضية الفلسطينية باكرا وبتزايد مطَّرد، رغم البداوة، والأمية، وقلَّة المعلومات المتوفرة. وقد ساهمت عوامل كثيرة في تشكيل الوعي الجمعي الوطني بهذه القضية، من أهمها:
- الفطرة السليمة والشعور بالواجب الديني: حيث يحظى المسجد الأقصى بمكانة خاصة لدى جميع المسلمين، وفي مقدمتهم الموريتانيون، لما يعرف عنهم من تدين فطري، جبلهم على حب الإسلام وأرضه وأهله ومقدّساته، وبغض الكفر وأهله خصوصا "اليهود وكارهي النبي -صلى الله عليه وسلم-"، لا سيما إذا كان اليهود معتدين صائلين مغتصبين، أوجبت الشريعة دفعهم عن أرض الإسلام.
وقد ساهم في تغذية هذا الشعور، مواقف العلماء من أمثال الإمام بداه بن البوصيري - رحمه الله - الذي يذكر عنه أنه درّس باب الجهاد من مختصر خليل تزامنا مع حرب العاشر من رمضان، والعلامة محمد سالم ولد عدود - رحمه الله - الذي تحدّث عن القضية الفلسطينية كثيرا في شعره، والعلاّمة اباه ولد عبد الله - حفظه الله - الذي أَوْلاها، وما زال يوليها اهتماما خاصا، رغم انصرافه عن .شؤون السياسة المحلية، إلى التدريس والتربية والفتيا. ومؤخراً، مواقف العلامة محمد الحسن ولد الدّدو - حفظه الله - الجريئة ضد التطبيع، التي دفع ثمنها باهظا من صحته وحريته في نهاية فترة حكم الرئيس معاوية ولد الطايع.
- الوعي القومي العروبي: وقد كان لمواقف الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، وبعض قادة العرب في تلك الفترة، والتي كانت تنقلها إذاعة "صوت العرب" المتابعة بشكل واسع محليا، دورٌ كبير في إذكاء روح الحمية ضد اليهود المحتلين. كما كانت القضية الفلسطينية حاضرة في نصوص الشعراء الموريتانيين، خاصة الفصيحة، ومن أوائل من تناولها في قصائده الشاعرين الكبيرين محمد الحنشي ولد محمد صالح وأحمدّو ولد عبد القادر.
- التعبئة الإيديولوجية: التي كانت تقوم بها حركات ومجموعات سياسية، مثل القوميين والكادحين، ولاحقا الإسلاميين.
- أخبار المجازر التي يرتكبها الصهاينة، والتي كانت تنقلها - وإن باجتزاء وتحيُّز- كبريات المحطات الإذاعية العالمية.
التطبيع... الاستثناء الذي يؤكد القاعدة
شكّلت التسريبات الصحفية للقاءات سرية بين الدبلوماسية الموريتانية ونظيرتها الصهيونية منتصف التسعينات صدمة كبيرة للرأي العام المحلي، أعقبتها احتجاجات متعددة ومتنوعة، جابهها النظام الموريتاني بسجن ونفي ثُلَّة من المناضلين، أبرزهم الزعيم التاريخي للمعارضة الموريتانية السيد أحمد ولد داداه.
وقد كان يوم 27/10/1999م يوما أسودَ في تاريخ الدبلوماسية الموريتانية، حيث وصل مسار الانحدار المتدرِّج نحو وَحَل التطبيع الآسن إلى قاعه بإعلان رفع التمثيل الدبلوماسي بين موريتانيا والكيان الصهيوني إلى مستوى السفراء.
استفرغ داعمو النظام حُججهم التبريرية، ودافعوا عن الخطوة التي لم يستشاروا عليها، ولكن ذلك بقي خجولا ومعزولا وسط جماهير الشعب الموريتاني المناهضة للتطبيع و"موالاة الذين كفروا".
كان التطبيع خرما للإجماع الذي نقلناه سابقا، واستثناءً من القاعدة، ولكنه - في الحقيقة - جاء ليؤكِّد تلك القاعدة، ويرسِّخ ذلك الإجماع، حيث كانت ردّة الفعل الشعبية قوية جدّا، فشملت احتجاجات قوية، ومظاهرات ضخمة، ومقاطعة كبيرة لكلّ مظاهر التطبيع.
لعبت خطب الجمعة والكلمات المسجدية الدور الأساسي في محاربة التطبيع، طيلة الفترة من 1999م إلى 2003م، فأصبحت الجوامع نقطة انطلاق المسيرات والمظاهرات، وتميزت مجموعة من الأئمة الإسلاميين بخطبهم الحماسية، من أهمهم الأئمة: محمد الأمين ولد محمد المصطفى، الحسن ولد حبيب الله، سيد أعمر ولد شيخنا، سيدينا ولد الراظي، محمد أحمد (امّد) ولد الرباني، خالد ولد اسلمُ ومحمد الأمين ولد إسماعيل وغيرهم.
سبَّب هذا النشاط المتزايد للجوامع إحراجا شديدا للسلطة القائمة، فلجأت لأساليب القمع والمضايقة، ولوحت بتأميم المساجد، وحاولت شرعنة هذه الإجراءات التعسفية بسن قانون للمساجد، اعتبره الأئمة مقيدا للحريات ومناقضا لرسالة المسجد.
لم تفلح الحلول الأمنية في تركيع الأئمة، وكانت التعبئة الشعبية التي يقومون بها انطلاقا من منابرهم ضدّ السلطة القائمة المسمارَ الأخير الذي دُقَّ في نعش نظام ولد الطايع، طبعا بالإضافة إلى الجو السياسي المحتقن الذي سببته اعتقالات الإسلاميين، وإلى الدور الهام الذي لعبه تنظيم فرسان التغيير - الذين كانت مناهضة التطبيع من أهم الأسباب التي حركتهم - في هَزِّ هذا النظام.
الرباط الوطني... خلاصة التجربة
في العام 1999م. تأسس الرباط الوطني لمقاومة الاختراق الصهيوني (لاحقا، ومن أجل الحصول على الترخيص، أصبحت التسمية: الرباط الوطني لنصرة الشعب الفلسطيني) على يد مجموعة شخصيات من مشارب سياسية وإيديولوجية مختلفة، وإن كان يجمعها جميعاً معارضة النظام المطبِّع القائم حينها. انتخب الأستاذ محمد جميل ولد منصور أمينا عاما للرباط، بينما كانت رئاسة مجلس الإدارة من نصيب الأستاذ محمد محمود ولد لمّات.
لم تنل المنظمة الناشئة الترخيص، لكن ذلك لم يُثنها عن مواصلة الاحتجاج والتظاهر، وتنظيم المهرجانات والأمسيات التي تعرِّف بالقضية وتربط الشارع الموريتاني بها.
ويمكن إجمال الإضافات التي ميَّزَت تجربة الرباط الوطني كمرحلة هامة من تطور أساليب نصرة القضية الفلسطينية ومناهضة الاحتلال الصهيوني والتطبيع لدى الشعب الموريتاني في النقاط التالية:
- قَضّ مضجع السلطات المطبِّعة بتنظيم عشرات الاحتجاجات والمظاهرات، ومواكبة مختلف مراحل التطبيع، وذلك بالاشتراك مع المبادرة الطلابية لمقاومة الاختراق الصهيوني الرائدة في هذا المجال. ويمكن التمثيل لذلك بحادثتين: أولاهما المظاهرات الشديدة المندِّدَة بزيارة وزير خارجية العدو للبلاد، والتي قادها الأمين العام للرباط الأستاذ محمد غلام ولد الحاج الشيخ شخصيا، رغم أنه كان حينها مطلوبا لدى الأجهزة الأمنية. أما الثانية فهي الاحتجاجات الواسعة والقوية والمتكررة، التي واكبت حرب الفرقان، وتعتبر هذه الاحتجاجات من أهم الأسباب التي دفعت السلطة إلى تجميد العلاقات مع الكيان الصهيوني.
- استغلال القوة التعبوية الكبيرة للإسلاميين في تحريك القضية شعبيا وإعلاميا. فبالرغم من تمثيل كافة القوى السياسية - خاصة المعارضة التقليدية - في قيادة الرباط، إلا أن مشاركة هذه القوى على الأرض بقيت ضعيفة مقارنة بالمشاركة الفاعلة للإسلاميين؛ الأمر الذي يميِّز هذه المرحلة عن مراحل سابقة قادَ فيها القوميون واليساريون الفعل المناصر للقضية على المستوى المحلي.
- ربط علاقات هامّة مع المنظمات الشبيهة في الدول الأخرى، ومع المنظمات الفلسطينية، وتبادل الزيارات مع هذه المنظمات، والمشاركة في بعض الفعاليات الدولية المناصرة للقضية، ولعل مشاركة الأمين العام للرباط في أسطول الحرية أهم إنجازات الرباط في هذا المجال.
- جمع التبرعات وتسيير القوافل مساهمة في تعزيز صمود الشعب الفلسطيني، وفك الحصار عن غزة، أو تخفيف آثاره على الأقل. ومن الملاحظ أن الاستجابة الشعبية لهذه الحملات تتزايد باطِّراد، حيث فاقت نتائج حملة جمع التبرعات التي نُظِّمت العام الماضي بالتزامن مع حرب العصف المأكول كلَّ التوقعات.
آفاق التطوير...
لا تخلو تجربة مهما تميزت من نواقص وثغرات، وليس العيب في وجود هذه النواقص والثغرات، إنما العيب كل العيب في بقاء هذه الثغرات بعد تَبَيُّنِها والقدرة على سدِّها، وذلك ما عبر عنه المتنبي بـ"نقص القادرين على التمام". ولا يمكنني بعد استعراض تجربة منظمة رائدة مثل الرباط الوطني لنصرة الشعب الفلسطيني، جاءت حصيلة لعقود من تراكم التجارب المحلية للمشاركة الإيجابية في حمل هم القضية الفلسطينية، إلا أن أسجل بعض الملاحظات والمقترحات القليلة، لعلها تفيد القائمين على هذه المنظمة، الذين أرجو لهم التوفيق، وأقدِّر الظروف القاسية التي يعملون فيها.
وفيما يلي أهم هذه الملاحظات والمقترحات:
1- تعزيز المؤسسية وتجنب الموسمية: فليس مقبولا من منظمة يزيد عمرها على خمسة عشر عاما (سبعة أعوام باعتبار حصولها على الترخيص) أن تكون أعمالها موسمية، وأن يسيطر عليها منطق ردّ الفعل، بل الواجب أن تضطلع كافة هياكلها بالأدوار المنوطة بها على أكمل وجه، وأن تنطلق في عملها من إستراتيجية واضحة تليق بحجم المهمة التي تنوء بها.
2- زيادة الاهتمام بالقدس والأقصى: أدى الحصار المفروض على قطاع غزة، والحروب الثلاثة التي شُنّت عليه في السنوات الستِّ الأخيرة، إلى انصراف اهتمام كثير من المسلمين إلى القطاع، ولم تنجُ المنظمات الداعمة للقضية من ذلك، فأُهمِلت القدس إلى حدٍّ كبير، وتُركت للتهويد وطمس المعالم، ولولا ثلة قليلة من المرابطين لهُدِّم المسجد الأقصى ودُنِّس. فينبغي على الرباط الوطني إيلاء القدس والأقصى جزءاً أكبر من اهتمامه، توعيةً للجماهير بقضيتها، وجمعاً للتبرعات المعينة للمقدسيين العُزَّل على الصمود والاستبسال في مقاومة المستوطنين الهمج. ونرجو أن يكون ملتقى القدس الأول افتتاحا لهذه المساعي المباركة.
3- تجاوز مرحلة الشعارات، ونشرُ الوعي بحقيقة الصراع وأبعاده، وذلك لزيادة الارتباط الواعي والناضج بالقضية الفلسطينية. وقد سبق أن نقلنا مقتطفا من كلمة الأمين العام في افتتاح الملتقى، تؤكد أن تنظيمه جاء لتحقيق هذا الهدف.
4- الاهتمام بإيصال رسالة الرباط الوطني لفئات شعبنا غير الناطقة بالعربية، حيث يلاحظ ضعف كبير - يُفسِّره حاجز اللغة - في مستوى تفاعلها مع القضية، فقضية فلسطين هي قضية الأمة الإسلامية بجميع تنوعاتها العرقية.
5- العمل على "جعل موريتانيا قلعة إشعاع في الغرب الإفريقي لمقاومة الاختراق الصهيوني"، ونصرة الشعب الفلسطيني.
ومن المؤسف أن تَرِد النقطتان السابقتان في ورقة الأستاذ محمد غلام التي أشرنا إليها سابقا، ولا نجد لذلك أثراً كبيراً في الواقع بعد أكثر من ستِّ سنوات!
6- السعي في الحصول على أوقاف يوجَّه ريعها لنصرة القضية، وتأسيس مشاريع مدرَّة للدخل لذات الغرض.
7- العمل المشترك مع كافة القوى السياسية الوطنية لاستصدار قوانين تردع الأفراد والمؤسسات عن جميع أنواع الممارسات التطبيعية.
8- توفير منح دراسية لبعض الشباب الفلسطيني من أجل دراسة العلوم الشرعية بموريتانيا.
9- فتح فروع للرباط في الولايات الداخلية، تساهم في لا مركزة النصرة، وتأطير المبادرات الاحتجاجية والثقافية والخيرية الداعمة للقضية
هذا، ولا يُساور أي مسلم شك في أن العاقبة للمتقين، وأن الله ناصر المستضعفين المؤمنين على اليهود الظالمين: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}، فالفائز من كان جزءاً من قدَر الله الذي ينصر به عباده؛ جعلني الله والمسلمين كافة والمنشغلين بنصرة القضية الفلسطينية خاصة من هؤلاء الفائزين المفلحين.