هل هي عبقرية الألمان في اقتناص الأفكار والرؤى الإبداعية أم أن الشاعر الألماني يوهان فولفجانج جوته هو مبدع البيت الشعري الخالد:
قف للمعلم وفه التبجيلا *** كاد المعلم أن يكون رسولا؟؟
لقد دفعتني مطالبة القضاة الألمان الغريبة لحكومة بلادهم بمساواتهم في الرواتب والعلاوات والامتيازات بالمعلمين، إلى البحث واستجلاء المكانة التي تعطيها أعظم دول أوروبا وأكثرها تقدما وعطاء علميا وتقنيا وثقافيا، ثم أكبرها اقتصادا لمعلميها الأمناء على تلقين أبنائها أسس العلم ومبادئ الحضارة، لأتفاجأ بأن ألمانيا تمنح المعلمين رواتبا أعلى من القضاة والأطباء والمهندسين، ألمانيا رائدة الصناعة الأوروبية، والتي تعتمد في ريادتها على إبداعات مهندسيها الذين طبقت شهرتهم وكفاءتهم الآفاق، تعطي لمهندسيها رواتب أقل من المعلمين!!!.
المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ردت على مطالب القضاة بعبارة تختزن الكثير من الاحترام للعلم والمعلم، قائلة في مؤتمر صحفي مشهود: "تأدبوا، كيف تطالبونني أن أساويكم بمن علموكم؟!!"، فكأن المستشارة النصرانية ، تأخذ من مأثورنا من علمك حرفا فهو مولاك. لذلك انبعثت ألمانيا من تحت رماد ودمار الحرب العالمية الثانية وشروط أعدائها المذلة، واستعادت ريادتها العلمية والصناعية ثم الاقتصادية والسياسية في عقود قليلة.
ويحظى المعلم بمكانة سامقة كذلك عند عملاق الصناعة الآسيوية، وينسب له الفضل فيما وصلت إليه البلاد من تقدم ورفعة، ويكفي للدلالة على ذلك رد إمبراطور اليابان عندما سئل عن سر تقدم اليابان السريع فقال: "إن دولتنا تقدّمت، في هذا الوقت القصير؛ لأننا بدأنا من حيث انتهى الآخرون، وتعلّمنا من أخطائهم، وأعطينا المعلّم حصانة الدبلوماسي، وراتب الوزير".
المعلم هو حجر الزاوية إذن ليس فقط في العملية التربوية كما أعتدنا أن نقول، وإنما في العملية الاقتصادية والتنموية كذلك، لذلك نجد أن الدول الرائدة في العلم والتكنلوجيا والاقتصاد قد بدأت واستمرت في الإنفاق بلا حدود على المعلم، وأعلت من شأنه وتخيرت معلميها من المتفوقين والنوابغ فأنتج ذلك أجيالا تفاخر بها شعوبها اليوم في كل المجالات.
لو نظرنا إلى ألمانيا مثلاً لنعرف مدى اهتمامها بالمعلم ومكانته، نجد أن لكل نوع من أنواع المدارس فيها معلمين مؤهلين تأهيلاً خاصًّا ومختلفًا، ويشترطون على جميع المدرسين أن يكونوا من حملة الشهادات الجامعية، فمن يريد أن يصبح معلمًا في المدرسة الابتدائية يدرس في الجامعة سبعة فصول دراسية (ثلاث سنوات ونصف)، أما مدرسو المدارس المتوسطة والمدارس الثانوية العامة، والمدارس المهنية، فيجب أن يدرسوا في الجامعة مدة أطول (ثمانية أو تسعة فصول دراسية)، ولأن الرواتب العالية فقد جعل ذلك المهنة مرغوبة؛ فأتجه لها الطلاب المتفوقون والمتميزون؛ ونشأ جيل من المعلمين العباقرة والمبدعين والمتفوقين، فنقلوا تميزهم وتفوقهم إلى تلاميذهم، فتم بناء جيل متحمس للعلم والعمل معًا، استطاع تحقيق انبعاث نهضة بلاده.
هذه مكانة العلم والمعلم عند الدول التي أرتقت في مدارج العلم والحضارة، وخصصت كل أيامها وأشهرها وسنواتها للتعليم فأكرمت المعلمين وحملة العلم، وشجعت العلم والمعرفة قولا وعملا، فهل تتكرم سلطاتنا العمومية التي خصصت للعلم سنة عرجاء بلا تخطيط أو تمويل أو رؤية، أن تعطي لمعلميها رواتب رقباء الحرس الرئاسي لا ضباطه، أما مساواة رواتب المعلمين برواتب القضاة، فهو مطلب مضحك وغير جدي في بلادنا التي يبلغ فيها راتب القاضي أكثر من ثمانية أضعاف راتب من علمه بعبارة مستشارة ألمانيا.
هكذا تستجيب ألمانيا لنداء أمير شعرائنا أحمد شوقي، أما في موريتانيا وأكثر البلدان العربية فلا حياة لمن ناداهم الشاعر الكبير. آه لو استمعوا للمرحوم شوقي أو حتى لكوته أو أنشتاين، فأعلوا مكانة المعلم وارتقوا بالعلم، وأراحونا من تفاهات الانقلابيين وإفساد المفسدين.
وتبقى الخلاصة أن ألمانيا تبجل المعلم واليابان تبجله، و أن موريتانيا تبخل عليه بلفتة ولو معنوية في سنة أسموها زورا سنة التعليم بامتياز.
حفظ الله موريتانيا وأهلها، ووقاها كل الشرور والفتن.