هذا خبر مفرح، تمنيت أن يشاركني الجميع الحفاوة به: عم زيزو سيحقق أمنيته ويسافر لأداء مناسك العمرة ، إذا كنت لا تعرف الرجل فأنا لا أعرفه أيضاً، إلا أنني سعدت حين قرأت في صحيفة الصباح أن طلاب كلية التجارة بجامعة القاهرة اكتتبوا فيما بينهم وقرروا تحقيق أمنية العم زيزو وتغطية نفقات أدائه للعمرة، تعبيرا عن محبتهم له.
في الخبر تقديم للرجل ــ اسمه الحقيقي عبد العزيز ــ باعتباره أشهر عامل نظافة في جامعة القاهرة، وقد بلغ من تعلق الطلاب والطالبات به أنه حين نقل من وظيفته يوما ما بسبب مشكلة كان مظلوما فيها، فإن الطلاب نظموا مظاهرة طالبت بعودته، ولم يهدأ لهم بال حتى أعيد الرجل إلى عمله.ما همني في القصة ثلاثة أمور، الأول أن الرجل صار نجما في الجامعة بخلقه وتفانيه في عمله، ورغم تواضع وظيفته فإنه نفذ إلى قلوب الجميع واكتسب احترامهم واعتزازهم به. الثاني أن الطلاب والطالبات قدروا جهده وقرروا مكافأته بأموالهم الخاصة بعدما رأوا فيه نموذجا متميزا وجديرا بالتقدير.
الأمر الثالث أنهم عبروا عن مشاعرهم بالسعي لتحقيق إحدى أمنياته التي لم يكن بمقدوره أن يحققها بموارده الخاصة دون توصية أو مساعدة من أحد.
لست أشك في أن عم زيزو ليس فلتة ولا هو فريد في بابه، فأمثاله كثيرون في مختلف مواقع العمل وشرائح المجتمع، ذلك أن كل واحد منا لابد أنه صادف نماذج لأولئك المخلصين البسطاء الذين يتفانون في أعمالهم في صمت، ويتحملون مشقات الحياة وشظفها في صبر، ولأنهم كذلك فأداؤهم لا يعد خبراً تتسابق وسائل الإعلام لمتابعته، ذلك أنهم جميعا ينتمون إلى الطبقات الفقيرة التي لا تذكر في العادة إلا على صفحات الحوادث، حين تجرفهم السيول أو يشب حريق في دورهم أو يغرق بهم مركب أو تدهسهم حافلة. هؤلاء لا يذكرون باعتبارهم مواطنين ولا حتى باعتبارهم رعايا، ولكنهم لا يذكرون إلا بحسبانهم أرقاما وضحايا.
حين تعلقت عيون الناس بالتلفزيون الذي شغل بالهم وهيمن على مداركهم وأحوالهم، فإن الصور خطفت أبصارهم وارتبط الحس بالإبصار، ولأن هؤلاء بلا صور فوجودهم معدوم على خرائط الإدراك، لذلك فحين تحل الكوارث فإنهم يتواجدون كأرقام وليس كأسماء أو هويات.ولأن الجميع صاروا مشغولين بالسياسة أو النميمة السياسية، فإن بسطاء الناس والخير الوفير الذي فيهم لا يثير الانتباه ولا يلقى ما يستحقه من الوقوف والنظر.
في هذا الصدد، لفت انتباهي في رسالة الدكتوراه التي أعدها الباحث إبراهيم غانم عن الأوقاف والسياسة في مصر أنه رصد مشاركات واسعة النطاق في الوقف من جانب بسطاء الناس ومتوسطي الحال منهم. ذلك أن التركيز يوجه في العادة إلى أوقاف الأثرياء على قلتهم، ولكن الباحث وجد في دراسته لحجج الأوقاف خلال قرن من الزمان أن أعدادا كبيرة من أولئك البسطاء كان لها إسهامها في إشاعة التكافل والخير بين الناس.
ورغم تواضع عطائهم من الناحية الاقتصادية، إلا أن رمزيته كانت مهمة، وظلت أوقافهم تتراوح بين إقامة طلمبة وسبيل للمياه أو مظلة تحمي الواقفين من الحر أو مضيفة أو كتاب لتحفيظ القرآن.. إلخ.هذه النماذج الفريدة بين بسطاء الناس يظلمها الإعلام وتتعالى عليها النخبة، فهم ليسوا نجوما في المجال العام، ولكن كل واحد منهم مقدر في محيطه على صغره، ثم إنهم أكثر صفاء ونقاء من كثيرين يحتلون الواجهات والصدارات.
ذلك أنهم يؤدون ما عليهم بدوافع ذاتية نابعة من إخلاصهم وقيمهم التي ورثوها. وليست لهم طموحات ولا حسابات، ولا علاقة لهم بالاصطفافات أو الانقسامات التي تشغل بال النخب وتستهلك طاقاتهم.لقد كانت إحدى أمنياتي التي عبرت عنها أكثر من مرة أن نكف عن اختيار كبار المسؤولين والحكام والنجوم ضمن شخصيات العام في كل سنة.
إذ رغم أن بين هؤلاء من يستحقون التكريم إلا أنهم في الأضواء طول الوقت، ثم إن هناك مناسبات أخرى كثيرة لتكريمهم، ناهيك عن أن نجوميتهم توفر لهم قدرا معتبرا من الرضا والحضور.
أما هؤلاء البسطاء النبلاء فإنهم يقبعون في الظل دائما رغم أنهم ملح الأرض وقاعدة المجتمع. ومن حق المتميزين فيهم في مختلف مجالات الإنتاج والخدمات أن ينالوا حظهم من التكريم، ليس فقط إنصافا لهم وتقديرا لعطائهم، ولكن أيضا لكي نرد الاعتبار لقيم الإخلاص والتفاني والانضباط والإتقان وغير ذلك من القيم الإيجابية التي أهملنا رعايتها.لقد رشحت من قبل السيدة صيصة لتكون شخصية العام في مصر بعد تكريمها في عيد الأم.
وهي السيدة الصعيدية التي كتب عليها أن تواجه العالم وحدها بعدما مات زوجها وهي حامل في شهرها السادس، فتنكرت في ثياب رجل طوال ٤٣ عاما، ونسيت نفسها تماما، وظلت تكافح كي تربي ابنتها وزوَّجَتها، ضاربة بذلك نموذجا نادرا في الشجاعة وإنكار الذات.لماذا يكون تكريم العم زيزو استثناء وفلتة، ومتى يمكن أن تتخلى النخب عن أنانيتها بحيث تفسح المجال للمغمورين النبلاء من أمثاله أن يفوزوا بلحظة ضوء في حياتهم قبل أن يعودوا إلى مكمنهم في عالم الرعايا والضحايا؟.
فهمي هويدي