الوحدة هي عماد الأوطان و هي العقد الناظم لإرادة المواطنين العَيْشَ المشتركَ و يجب أن تكون من الثوابت الراسياتِ التي لا يأتيها باطل التجاذب السياسي قَبْلِيًا و لا بَعْدِيًا.
و لقد علمتنا التجارب ماضيُها و حاضرٌها إفريقيا و عربيا أن تضييع الوحدة الوطنية و التفريط فيها تَغْلِيبًا لمنفعة عِرْقٍ أو طائفة أو فئة أو مجموعة معينة تعريضٌ للوطن للخطر و إذْهاب لريحه و وئامه و تماسكه.
والوحدة الوطنية ببلادنا ظلت للأسف موضوع جدل و شد و جذب بين النخب الفكرية و السياسية و صَنَعَةِ الرأي طيلة عقود ما بعد الاستقلال إلي يوم الموريتانيين هذا حتي ليُخَيٌلُ إلي المتابع الخارجي أن في مسألة الوحدة الموريتانية شك أو ريب !! و إن كان من الملاحظ أن حَدٍيًةُ و سخونة الجدل حول الوحدة الوطنية تتناسب عكسا مع تحسن المناخ الديمقراطي و نجاعة محاربة الفساد و إقامة دولة القانون.
لذلك فإن تقديري أن الصخب السياسي و الإعلامي الحاصل هذه الأيام حول خطر داهم علي الوحدة الوطنية استحضارًا لخلفية التهديد بتنظيم تظاهرة غير مرخصة إداريا من طرف "بقايا" تنظيم سياسي هَرِمٍ، وَاهِنِ العظم مثقلٍ بإرث من ماض عنصري مسلح غيرِ مرَخُصٍ قانونا مسنودٍ سرُا و خِلسة بجناح غير وَازِن من تنظيم سياسي فئوي غير شرعي لمًا تستقر بوصلته الإيديولوجية و الفكرية و لمًا يَسْتَبِينُ خَطًه التحريري النضالي كل ذلك أقرب إلي "الترف النخبوي الافتراضي" منه إلي الواقع الجماهيري الميداني.
و إذا كنا استبعدنا وجود خطر داهم قَرُبَ و رَدِفَ علي الوحدة الوطنية كما يروج له بعض المتطرفين و المتشائمين حَدَبا و شَفَقَةً و "فاقدي المناعة الفكرية" الذين يلهثون وراء كل الأفكار الجديدة و الأكثر إثارة، فإن ذلك يجب أن لا يحجب- و لو لِطَرْفَةِ عين- حقيقة واجب التسلح بالحيطة و اليقظة اتجاه وجود " إشارات حَذَرٍ" علي طريق الوحدة الوطنية الذي يجب علينا جميعا علي اختلاف أعراقنا و منازعنا و ألسنتنا أن نحافظ عليه سالكا آمنا. ومن أوْكَدِ إشارات الحذر تلك حسب ترتيب الأهمية و الحساسية و الاستعجال:
أولا: أولوية تحقيق العدالة و "الحكمة" الاجتماعية: ظل الحديث عن الوحدة الوطنية ببلادنا خلال القرن الماضي يحيل -بادي الرأي- إلي مسألة التعايش العرقي و الثقافي بين المكونات العرقية لشعبنا لكن اتجاهات الحديث اليوم عن مسألة الوحدة الوطنية ورديفاتها: اللحمة الوطنية ، الوئام الاجتماعي و السلم الأهلي،... تعني أولا و قبل كل شيئ التنبيه إلي أن الاستعجال في مسألة صيانة الوحدة الوطنية انتقل من محور التعايش العرقي إلي محور معالجة بقايا الاسترقاق و رواسبه و ردم الهوة الاجتماعية و الاقتصادية و المعنوية بين ضحايا ماضي الاسترقاق و رواسبه و بقية المجتمع الموريتاني.
و مسألة معالجة بقايا الاسترقاق و رواسبه تتطلب مقاربة شاملة جريئة غير تقليدية عنوانها العريض العدالة الاجتماعية أو " الحكمة الاجتماعية"بما يستدعي ذلك من إعداد مقاربة إصلاحية كبري حتي لا أقول ثورة اجتماعية كبري تسحب بساط المبادرة من تحت أعداء المشروع الوطني الكبير استئناسا بالتجارب الناجحة لدول شبيهة بالتركيبة المجتمعية لبلدنا و عَمَلا علي لحاق سريع للفئات ذات الماضي الاسترقاقي بباقي فئات المجتمع تربية و تعليما و توظيفا و تملكا لمختلف مصادر الثروة...
ثانيا: واجب مواصلة رأب الصدع العرقي: تعرض التعايش بين المكونات العرقية لمجتمعنا( و التنوع العرقي منصوص عليه في التعديل الدستوري الأخير) إلي هزات عنيفة كان آخرها سنوات 1989، 1990و 1991 مما خلق جدارا عازلا من عدم الثقة بين الأعراق الموريتانية يجب أن يعترف المنصفون من المراقبين و المحللين للسلطات الحاكمة حاليا بأنها بذلت جهدا كبيرا في تحطيم جدار عدم الثقة ذلك من خلال تصفية رواسب الإرث الإنساني بدءً باعتراف الدولة بالمسؤولية المعنوية عن تلك الأحداث و الأخطاء الإنسانية مرورًا بتعويض أصحاب الحقوق و تنظيم عودة كريمة مشهود بنظافتها دوليا و إقليميا للموريتانيين الذين لجأوا ساعتها إلي السنغال دون نسيان الإذن بعودة المتطرفين القوميين من الزنوج الموريتانيين الذين حملوا في ماضي الأيام السلاح ضد وطنهم و شعبهم دون يسير حساب و لا حتي خفيف عتاب!!!.
و مع كل هذا الجهد الذي تم بذله لإعادة بناء الثقة بين الأعراق الموريتانية فيبدو أن المسيرة لا زالت طويلة و الشقة لا زالت بعيدة و تتطلب المزيد من الحوار الداخلي من أجل مراجعة العقد الاجتماعي الوطني انطلاقا من المعطيات الديمغرافية الحديثة و الأولويات المجتمعية المستجدة و تجارب التعايش الناجح بين "الأغلبية الكبيرة" و "الأقلية غير القليلة" بعيدا عن ما هو معروف من نوازع إرادة الهيمنة و الاحتواء و الإقصاء لدي الأغلبية عادة و قصيا عن ما هو مألوف من شطط "دكتاتورية الأقلية" غالبا حتي نتمكن معا من تحييد الخلايا المتطرفة من الطرفين لصالح تعزيز أواصر أخوة مواطنية خالصة.
ثالثا: أهمية تصحيح اختلالات التنمية الجهوية:عرفت التنمية الجهوية خلال العقود الماضية اختلالات كبيرة يعكسها التوزيع الجغرافي لنسب الأمية و الفقر و التمدرس و الولوج إلي الماء الشروب و النفاذ إلي الخدمات الصحية القاعدية ونسب النجاح في شهادة الباكلوريا و الغياب شبه التام للمرافق الخدمية و الإنتاجية الكبري للدولة و "تهميش" الثروات التقليدية كالزراعة المطرية و زراعة النخيل و التنمية الحيوانية،...و هو ما يتطلب إصلاحات مُؤَسٍسَة من قبيل " التمييز الجغرافي الإيجابي" ضمانا لتناغم و عدالة التنمية الوطنية.
أعلم أن الكثيرين سيسارعون إلي القول بأني إنما أقصد تنبيه الدولة و النخب السياسية إلي اليقظة اتجاه إشارات الحذر الثلاثة علي طريق الوحدة الوطنية و ظَنًهُمْ صوابٌ صحيحٌ لكن عليهم أن لا يغفلوا بأن عهد الاتكالية علي الدولة في كل شيئ قد ولي و أن جهد صيانة و تعزيز الوحدة الوطنية هو عمل تكاملي تتضافر فيه جهود الدولة و السلطة مع جهود المجتمع و القوي المجتمعية الأهلية و المدنية جميعا ( أسَرًا، أحزابا، موالاة، معارضة، مجتمعا مدنيا، نقابات، مراجع إسلامية، مراجع تقليدية،...) كل " ينفق" قدر استطاعته و في حدود دوائر تأثيره.