احتدّ الجدل واحتدم الخصام منذ ربع قرن من الزمان حول المقطوعة الرائعة التى صاغها جدنا العلامة المجتهد السلفىّ السنِّىُّ الإمام المجدد الشيخ سيدىَ بابه رحمه الله تعلى ورضى عنه، والتى أصبحت فيما بعد تُعرف ـ فتُعزف ـ بالنشيد الوطنىّ. وها هو ذا يعود اليوم ذلك الخصامُ جذَعا على أكثرَ من جبهة. فمن قائل: إن هذا "النشيد" لا يعبر عن هُوِّيَّة البلد، ولا يحثّ على التشبث بالوطن والتعلق بالأرض، ولا يصلح أن يكون شعارا أو رمزا من رموز الدولة المدنية الحديثة، وإنه يفتقر إلى تجذير مبادئ المواطنة، وترسيخ المشاعر الوطنية وحقيقة الانتماء ...حتى قال كاتب لامع اليوم متهكما، ساخرا ممن ينادون بتغييرهذا النشيد: إنه ـ من منظورهم ـ كان وراء هزائم موريتانيا المتكررة فى كرة القدم! فضلا عما سبَّبه من تخلفها وفقرها، وسوء إدارتها، ونهب مسؤوليها وموظفيها للمال العامّ!!!، بما كان نشيدا رجعيا متخلفا... إلى آخر ما قيل فى الغابر، وادُّعِى فى الحاضر. وختم قائلا ما معناه: غيروا النشيد إن كان سيحلّ جميع مشكلات موريتانيا ويغير عقليات أهلها ! ومن قائل: إنه هو التعبير الحقّ عما ينبغى أن تكون عليه هُويّة المسلم وعقيدتُه الراسخة المنافية للشرك، والمُعرِبُ عما يجب أن ينبنى عليه مسلكه السنىّ الذى يرتضيه شِرعةً ومنهاجا، وينكرُ ما خالفه من المناهج والبدع والخرافات المستحدَثة والدعايات المضلِّلة، أو قل: هو التعبيرعما ينبغى أن يكون عليه المسلم عقيدة وسلوكا ــ وشعبنا يَدين بالإسلام، ودولتنا تسمَّت يوم رأت النور بالجمهورية الإسلامية، ولم تتخلَّ بعدُ عن هذه التسمية، وتنص ديباجة دستورها الحالىّ على أن الإسلام هو المصدر الوحيد للتشريع! أفيكون عجبا أن يكون نشيدها الوطنىّ مفعَما بالمعانى الإسلامية، أو مُشبَعا بالمفاهيم والمبادئ الدينية؟ على أننا ـ على كل حال ـ نفرق بين التنظير والتطبيق، وبين القول والفعل. وأقول لهؤلاء: إن نشيدا كهذا لا يكون إلا مصدرَعزة وقوة، لتعلق أصحابه بالله، ونصرهم إياه، بتوحيده، وإقرار شرعه فى أرضه، وإنكار ما أنكره دينُه من المعاصى والمخالفات، وبِدوَرَانهم مع الحق الذى يرتضيه سبحانه، وتمسُّكِهم بما كان عليه الصدرُ الأول الذين فتحوا مشارق الأرض ومغاربها، فدان لسلطانهم ما بين الخافقين يومئذ، أو كاد. ومعلوم قطعا أنه لم يكن عندهم تفصيلا أكثرُ مما أجملته هذه المقطوعة تلخيصا. ومن البدَهىّ أن أمة كان مضمون هذا النشيد شعارَها فظهرت على كل الأمم القديمة، وبسطت نفوذها على الممالك العظيمة، وكسَرت، فى وقت مبكّر جدا، جبروت الروم وفارس، فجُبيت إليها خزائن قيصر وكسرى، وأنشأت المدائن والممالك، وابتَكرت من الصنائع الراقية، واستحْدَثت من العلوم وطورت من المعارف ما يُقر به الغرب والشرق، وما كان سببا فى قيام الحضارة الحديثة، وخلّدت هذا التراث الضخم العظيم الفريد، حفظا لدينها ولغتها وخصوصيتها، وخدمةً للإنسانية، لن يعجزها اليوم أن تحقق هدفا، ضد دولة إفريقية مجاورة، فى مباراة كرة القدم أو الكرة الطائرة...! وكيف تكون رسالة الدولة فى الحياة نصرَ كتاب الله وإعزازَ دينه وسنةِ رسوله ثم يكون ذلك مَدعاة لإخفاقها وفشلها وعجْزها وتخلفها عن ركب الحضارة؟ ذلك ما لا يكون أبدا. إن كلمات هذه المقطوعة مُستقاةٌ من قوله تعلى: (يأيها الذين ءامنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)، وقوله سبحانه: (الذين إن مكناهم فى الأرض أقاموا الصلاة وءاتوا الزكاة وأمروا بالمعرف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور)، وقوله: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله...)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدَثاتِ الأمور...الحديث"، وأمثال ذلك من النصوص الكثيرة المعروفة. وقد ضمِن تعلى لمن كان على هذا المنهج أن ينصره ويثبته، ويُظهره على عدوه، ويمكّن له فى الأرض، ويفتح له بركات من السماء والأرض، وأن يحْبُوَه الأمن والرخاء والحياة الطيبة. قال تعلى: (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)، وقال عز وجل: (ولو أن أهل القرى ءامنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض)، وقال: (وعد الله الذين ءامنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم فى الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكّننّ لهم دينهم الذى ارتضى لهم وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمنا يعبدوننى لا يشركون بى شيئا)، وقال:(الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون)، وقال (:إنا لننصر رسلنا والذين ءامنوا فى الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد)، وقال: (وإن جندنا لهم الغالبون)، وقال: (والعاقبة للمتقين)، وقال: (ولقد كتبنا فى الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادى الصالحون)، وقال: (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون). ولا أحسب أن أمة بهذه المثابة سيعجزها اليوم أن تحقق هدفا، ضد دولة إفريقية مجاورة، فى مباراة كرة القدم أو الكرة الطائرة...! على أنه لو غُلب المسلمون يوما من الدهر فى معركة، أو حلت بهم فاقة، أو زُلزلوا زلزالا شديدا، أو ابتُلوا ابتلاءاتٍ عظيمةً لسنوات أو عقود لمَا كان ذلك دليلا على أنهم فى ضلال، أو أن الدين هو السبب فى مشكلاتهم أو مصائبهم، فكل ذلك ـ إن صح الإيمان وصلح العمل ـ تمحيصٌ وابتلاء، ورفع فى الدرجات. فقد حصل من التضييق والتعذيب والاستضعاف فى مكة ما حصل، ثم كانت أيام أحد والأحزاب وحنين،...إلى وقائع لا تحصى، ولكن كانت العاقبة لهم، والدائرة على عدوهم. وإن أنسَ لا أنسَ وقفة العلامة الجليل الإمام الشيخ بداه ابن البوصيرىّ ـ رحمه الله تعلى ـ من فوق أعواد منبره، ضد هذه الدعوة الماكرة والوقاحة السافرة. كما لن أنسى طائفة من تلك النماذج الهزيلة التى عُرضت علَى أنها بديل للنشيد الوطنىّ، فإنها ـ حقا ـ تضحك الثكلى، إذ تؤسس للعنصرية ودعوى الجاهلية المُنتنة، أو تقتصر على تمجيد الحجارة والطين، وتخلو من التشبث بالدين. صحيحٌ أن مدبّج المقطوعة لم يصُغها لتكون ـ فيما بعد ـ نشيدا معزوفا، أو لتُعبر عن مبادئ العَلمانية والليبرالية أو الإلحاد، فتتلقّفها دولة مدنية تؤمن بمبادئ الحداثة والفصل بين الدين والدنيا، وإنما صاغها لتكون بجوامع كَلِمِها منهجَ حياة، ولتؤسس لرؤية شاملة قِوامها العُبودية لله واتباعُ الرسول. إنها رسم للمنهج الذى ينبغى أن يكون عليه الإنسان من حيث هو، بعيدا عن قيد الزمان والمكان، فهى بمُطْلَـقِيَّتها تصلح لكل فرد ومجتمع، ولكل دولة وكيان، إذ بدون المنهاج السماوىّ الذى رسَمته مستوحًى من الأصلين، تكون حياة الأفراد والمجتمعات ضياعا وخيبة وإفلاسا وخواء وذلّة وشركا وانتكاسا. إنها تعبير حىّ عن الدين الخالص والإسلام النقىّ فى فطرته وصفائه بعيدا عن لوثة الشرك والابتداع والخرافة والدجل، وردٌّ على كل من يسلك ذلك المسلك النكِد، ويريد أن يغير معالم الصراط السوىّ، ويضلل الأمة بتُرَّهاته وأباطيله، فتَهِنَ وتنتكِس. وأجزم أنه ـ رحمه الله ـ أفلح فيما توخاه، ووُفِّق غاية التوفيق فيما ابتغاه. والموفَّق من وفقه الله، والمخذول من خذله الله.