المغيبات:هذا النوع يمكن أن تجرى فيه العملية العقلية أي يمكن أن يحصل فيه تفكير، ولكنه بوجوده لا بكنهه، لأن الذي نقل إلى الدماغ بواسطة الحس هو أثره، وذلك يدل على وجوده فقط ولا يدل على كنهه(66)
فصوت سيارة خارج المنزل يدل على وجودها أو على شيء أحدث هذا الصوت قطعا، وهي عملية فكرية عقلية، وهذا التفكير خاص فيما يقع الحس على أثره، لأن أثر الشيء جزء من وجوده, فما يقع الحس على أثره يعتبر أن الحس وقع على وجوده، ولذلك يصح أن يقع فيه التفكير، ويصح أن يقع التفكير في « وجوده» قطعا، وأن يقع كذلك فيما يدل عليه الحس ويميزه من « نوعه» أما ما عدا ذلك فلا يمكن أن يجرى فيه التفكير، ولذلك لا يكون فكرا، مثل أن يقع الحس على أمور تكون أوصافا للشيء وليست أثرا له فتتخذ هذه الصفات وسيلة للحكم على الأمور وعلى الشيء, مثل أن تقول: أن الإسلام دين عزة. فإن هذا لا يعني أن المسلم يكون عزيزا, لأن العزة ليست هي الدين، بل هي فكرة من أفكاره، وبذلك فالعزة صفة من صفاته وليس أثرا من أثاره، والتقيد بالدين صفة من صفاته وليس أثرا من آثار الدين، ولذلك لا يجرى فيه التفكير، بل هو عبارة عن مجرد فرض وليس تفكيرا, وعليه فالذي يجرى فيه التفكير هو أثر الشيء وليس صفته، لأن الأثر يمكن أن ينقل الحس، ولكن الصفة لما لا يحس لا يمكن نقلها بالحس، وهي فيما يحس يمكن نقلها ولكن التفكير يجرى فيها لا في أثرها، ومن هناك لا يشكل عملية عقلية فلا يجرى التفكير فيه، وبعبارة أخرى:إن الفروض لا تصلح وسيلة للحكم، لأنها لم يقع الحس عليها.وهنا يرد الحديث عن المغيبات عن الحس، وهل يكون الاشتغال بها تفكيرا أم لا؟وهنا يجب النظر فيها، فإن نقلت أو رويت عن المقطوع بصدق قوله، وكان قد ثبت وجوده بالدليل القاطع، فإنها تعتبر من الفكر ويكون اشتغال الدماغ بها عملية عقلية أي تفكيرا، وذلك لأن َقطًعيتٌ وجود الناقل أو الراوي ثبتت عن طريق الحس وعن طريق الفكر القطعي، وصدق قوله ثبت عن طريق الحس وعن طريق الفكر القطعي, ولذلك تعتبر أنها في الأصل صادرة عما هو محسوس، أو محسوس أثره، وفوق ذلك فقد ثبت وجود المصدر وثبت صدقة بالفكر القاطع ، ومن أجل ذلك يعتبر فكرا, ويعتبر الانشغال به تفكيرا، سواء ثبت النقل أو الرواية بالدليل القطعي أو بالدليل الظني، إلا أن ما صح صدوره عن المقطوع بوجوده والمقطوع بصدقه إذا صح بشكل قطعي فكان قطعي الثبوت قطعي الدلالة، فإنه يجب تصديقه تصديقا جازما ولا يصح مجرد الشك به، وإذا صح بشكل غير قاطع أي ظني فإنه يجوز تصديقه تصديقا غير جازم، إلا أن كلا منهما يكون فكرا ويكون اشتغال الدماغ به تفكيرا، ومن هنا كان التفكير في ما أخبر عنه القرآن الكريم ( قطعي الثبوت قطعي الدلالة، أو قطعي الثبوت ظني الدلالة) وما ورد في أحاديث الرسول صل الله عليه وسلم ( رأي قطعي أو ظني الثبوت والدلالة) من مغيبات مثل الروح والموت وما بعد الموت والحياة، فاشتغال الدماغ بهذه المغيبات يكون تفكيرا، لأنها مستندة إلى المحسوس من حيث أصلها، فهي صدرت عمن يحسها، أو أخذت عن المقطوع وجوده وهو الخالق عز وجل, والمقطوع بصدقه وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم آنفا..الانسان بعد نفخ الروح: وبالرجوع إلى حالة الإنسان الأول في الوجود(67) واستقراء ما حدث من خلق فتسوية، فنفخ للروح، فإننا نجد: أن نفخ الروح جعل آدم عليه السلام مهيئا للتلقي والتعليم ﴿ وعلم آدم الأسماء كلها﴾ (68). والتفكير والتذكر ونقل ما تعلمه لغيره.. ﴿ قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون﴾ (69) وقادرا على التميز والاختيار والقبول والعصيان: ﴿ وعصى آدم ربه فغوى﴾ (70) وكلها صفات اكتسبها الإنسان بعد نفخ الروح وهيأته بذلك خليفة في الأرض فيعمرها وينتشر في جنباتها ويسود مخلوقاتها الأخرى إلى يوم القيامة. وواقع الأمر أن ما أكتسبه آدم عليه السلام حين نفخت فيه الروح من قدرات أو إمكانيات إنما يشكل في مجموعه العملية العقلية أو القدرة على التفكير، فقد تلقى آدم عليه السلام من الخالق سبحانه وتعالى معلومات تغاير ما طبع في فطرته من قرائن وحاجات عضوية، فأصبح لديه الأساس لربط أي معلومات تصله عن طريق الحواس، فالتفكير كما تقدم آنفا(71).يعني نقل الواقع إلى الدماغ, عن طريق الحواس مع وجود معلومات سابقة, يتم الربط بينها وبين هذا الواقع المنقول إلى الدماغ حتى تتم عملية التفكير(72)ماذا بعد عجز العقل البشر: والعقل بعد أن يصل إلى الحكم بحقيقة وجود الله عن طريق الآثار التي خلقها الله سبحانه وتعالى يرى نفسه عاجزا عن فهم الحقائق المحيطة والمتصلة به، ويرى من الواجب أن يكون هناك اتصال واضح بينه وبين خالقه ليرشده ويهديه إلى الأمور التي يقف عاجزا أمامها ولا قدرة له على حلها. ولما كان العقل محدود (73) والمحدود لا يستطيع أن يتصل بغير المحدود شاء الله العظيم الخالق المدبر أن يتصل هو بنا.ثم أتت رسل تخبر أنها أرسلت من الله، ببراهين تفوق عقل الإنسان...يتواصل...