من غير المألوف، في موريتانيا، أن تجد كاتبا حاز بقلمه مكانة مرموقة أو حصل على ثروة معتبرة، فلا زال أغلب المجتمع يعزف عن القراءة والكتابة ويعد الاشتغال بهما مؤشر فشل وقرينة بطالة.. هذا ما خطر ببالي بعد أن نصحني أحد الأصدقاء، مؤخرا، بالإقلاع عن الكتابة لأنها، في تقديره، تحط من مكانة ممتهنها.. لم يكن ناصحي عاميا وإنما حاملا لشهادة عليا وكان، فيما صدر عنه، يعكس شعورا مجتمعيا يتوجب العمل على محاربته فالكتابة والقراءة معـراجان إنسانيان ساميان والتقليل من شأنهما والعزوف عنهما، في مجتمع ما، مؤذن بتخلفه وانحطاطه.
لم أستطع بالطبع النزول عند نصح العاذل لأنني ألفت القرطاس وأنست بالقلم، فكما يحس البعض المتعة عندما يمتشق بندقيته ويعبر الصحاري والمفازات لقنص أرنب أو ذئب، يحس آخرون بالراحة عندما يطالعون وينبسط بعضهم عندما يدبج مقالا أو كتابا يحرره على مكث قبل أن يزفه لقوم لا يعدمون من ينتقي أطايب الكلام كما ننتقى أطيب الرطب في موسم القيظ (الكيطنه). والفرق بين قناص البر وصياد الفكر أن هواية الأول تضر بالبيئة الطبيعية التي توفر ظروف الحياة لسائر الكائنات بينما يعمر الثاني بإنتاجه الفضاء المعرفي الذي يميز البشرية ويكسبها قيمها السامية، وشتان ما بين الهدم والبناء.
بعد أن كان الكتاب تحفة ثمينة عند الآباء والأجداد يشترى أو يستنسخ بغالي الثمن ويرصع بالجلد ويفرد له حرم آمن يقيه الشمس والرياح ويحفظه من الرطوبة أصبح كساده قاعدة عامة واحتقاره بدعة متبعة.. وبعد أن كانت للكاتب مكانة وإجلال تحول أغلبهم إلى عاطلين وترك البعض الميدان.. هاجر البعض إلى بلدان أخرى وغير البعض اهتمامه وبقيت ثلة مرابطة على ثغور القرطاس لا تجد ما تستحق من عناية واحترام.
من غير المقبول في هذا المجتمع أن يقبل الناس على البضائع بأنواعها من ملابس وأواني وألعاب ويعرضوا عن الكتاب.. ومن يشك في أن ذلك أصبح واقعا مزريا فما عليه إلا أن يقف أمام المكتبات المعدودة حول سوق العاصمة، سيجد الزحمة في آلاف الدكاكين أما المكتبات فلا.
وسعيا لرفع معنويات الكتاب وتأليف قلوب المعدمين من أصحاب القرائح، أتناول هذا الموضوع تحت ثلاثة عناوين، في ثلاث حلقات متتابعة، أولها: حروف الذهب، وأستعرض تحته نماذج تاريخية تعكس قيمة الكتاب لدى بعض أعلام المجتمع الموريتاني الأصيل قبل أن أسرد قصة نجاح كاتبة عالمية قهرت الجنيه بالحرف. وأتناول، في الحلقة الوسيطة: رحلة كساد أبين من خلالها كيف أصبح كساد الكراس قاعدة عامة. وفي الحلقة الختامية: فتح موريتاني في غوانتانامو، أخلص إلى فسحة أمل استثنائية أستعرض فيها قصة نجاح فذة لكاتب موريتاني مقيد الحرية على بعد آلاف الكيلومترات من مضارب قوم يبدو أنهم، بعد أن نبغوا في تدجين شوارد لسان العرب الفصيح واللهجي (كلام البيظان) بدأوا يجربون فراستهم في لغة شكسبير.
العنوان الأول: حروف الذهب
كانت الحروف أغلى من الذهب ولا تزال، وكدليل على ذلك أستعرض نماذج تعكس قيمة الكتاب لدى المجتمع الموريتاني الأصيل (1) قبل تناول قصة نجاح كاتبة عالمية وفرت الذهب والفضة وقهرتهما باستخدام الحرف (2).
1
كانت للكتاب قيمة عالية لدى المجتمع الموريتاني التقليدي أبرزها من خلال حكايات مقتضبة تعكس القيمة التاريخية للكتاب عند الآباء والأجداد وإن كنت أعتقد أنها مجرد نماذج، من فوائد ذكرها أنه ربما ينبش حكايات مطمورة لا بد أن بذورها لا تزال حية في الذاكرة الجمعية. وأتبع في عـرض النماذج المنهج الكرونولوجي باعتماد التقويم الهجري في التواريخ المذكورة.
يروى أنه فيما بين القرنين الحادي عشر والثاني عشر للهجرة جلب سيدي عبد الله بن الطالب العلوي الملقب ولد رازكه، كتاب القاموس المحيط، إلى بلاد شنقيط وأنه أعرض عن بيعه لمسكه ولد باركلله بخمس وعشرين رأسا من البقر (ربما كان المؤلف مخطوطا لأن كتاب "القاموس المحيط والقابوس الوسيط الجامع لما ذهب من كلام العرب شماميط" لمؤلفه الفيروز آبادي، طبع طبعته الأولى سنة 1232 في كلكوتا بالهند بينما يبدو من ترجمات ولد رازكه أنه توفي قبل ذلك: سنة 1144).
وفي الجيل الموالي أهدى حاكم مصر - محمد على باشا في الراجح - لسيدي عبد الله ولد الحاج ابراهيم فرسا من العتاق الملكية (كحيلات مصر) فقام صاحبنا ببيعها واشترى بثمنها كتاب "مواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ خليل" المشهور باسم مؤلفه الحطاب، وقد ذكر الحسين ولد محنض أن سيدي عبد الله أثبت في ذيل نسخته ثمن الشراء وهو: "أربعة وأربعون مثقالا ونصف فصة من محروسة فاس" وقدر الحسين القيمة - في مقال نشر سنة 2010 - بمبلغ 6650 دولار أمريكي (وهو ما يساوي اليوم مليونين ومائة وإحدى وستين ألفا ومائتين وخمسين أوقية 2.161.250، بسعر صرف 1 دولار = 325 أوقية). كان ذلك أيام الشح في الموارد لا في النفوس. أما في مجتمع الوفرة المعاصر فلم نسمع عمن يشتري كتابا بأكثر من مليوني أوقية!.
وبعد أن وصلت الكتب الرائدة البلاد انبرى البعض لنسخها وكانت محاظر لعصابة والحوضين والضفة تجزل العطاء لمن يمتهنون النسخ.. ومن المألوف أن تكون أجرة نسخ الكتاب الواحد عشرات من كبار النعم (الإبل والبقر).
ويبدو أن شرح الحطاب ظل نادرا حتى القرن الثالث عشر، حيث يحكى أن عبد الله ولد محمد سالم المجلسي الملقب حند الله اشترى نسخة منه بستة عشر رأسا من الإبل..
وبالنظر لأهمية شرح الحطاب لدى العلماء الموريتانيين فقد نقحه محمد سالم ولد عدود، رحمه الله، ونشرته دار الرضوان التي لا بد أن مالكها، رجل الأعمال أحمد سالك ولد ابوه، ينفق عليها من دخل غيرها لكساد المعرفة ومحدودية مردوديتها.
وفي القرن المعاصر (الخامس عشر هجري) جلس رئيس ومالك البنك الموريتاني للتجارة الدولية سيدي محمد ولد العباس، رحمه الله، في مكتبه بعمارته الشهيرة في انواكشوط وكان ممن دخل عليه رجل غريب لخص بغيته في كلمات وجيزة: قدمت من أطار طلبا للمجلد الذي نشر من موسوعة المختار ولد حامدن "حياة موريتانيا".. فرد علي العاملون بالمكتبة بنفاد المعروض من الكتاب وبأن بعض النسخ موجودة بحوزتكم فجئت أسأل نسخة منها هبة أو بعوض.. وهب المصرفي عدة نسخ للرجل الذي خرج فرحا بكنزه الثمين فرحا أنساه لوعة المسألة التي لم تلجئه إليها الحاجات المادية التي لا شك أنها تفيض عن راتبه المتواضع كمعلم.. وكما لم يألف محمد سيدي ولد اعليه المسألة، فيما أعلم، أعتقد أن المصرفي، الذي كان على رأس قائمة أثرياء البلد آنذاك، لم يعتد الموقف فلا بد أن أغلب حاجات الناس فيه كانت تتعلق بالنقود والقروض وغيرها من القيم المادية المرغوبة.. ومهما يكن فإن شراء أعداد زائدة من الكتب لا يمكن إلا أن يكون بباعث شريف.
2
جوان رولينج Joanne Rowling سيدة إنجليزية من مواليد سنة 1965، اجتذبتها الكتابة منذ نعومة أظافرها وعندما كبرت لم يكن طريقها مفروشا بالورود فقد كانت ظروفها المعيشية صعبة خاصة بعد أن فشلت في التفاهم مع زوجها الأول واضطرت، بدافع البطالة والفاقة، لطلب المساعدة الاجتماعية من الدولة لتسكن وتعيل ابنتها.
في أحد أيام العقد الأخير من القرن العشرين وبينما كانت رولينج في محطة قطارات مانشستر بصدد السفر إلى لندن راودتها فكرة نسج قصة للأطفال فلبى خيالها الخصب الرغبة بإنجاب طفل لم يدم حمله إلا الساعات الأربع التي تأخر خلالها القطار. وبينما كانت الكاتبة ترجع بصرها تحت وطأة المخاض أحست بالشفقة لرؤية مسافر يغط في نوم عميق. ورث لقيط محطة القطار قدرات سحرية من والديه اللذين اقترنا في مكان (مسكون) بضوضاء العابرين. واختارت الكاتبة لليتيم الذي تبنته اسم (هاري بوتر) harry potter وسرعان ما تداعى إلى ذهنها كيف تؤهل الغلام ليجذب أطفال العالم باستخدام أنماط سحرية خارقة. تفننت الكاتبة في جعل اللقيط يتفاعل مع النص ودأبت على إبقائه منتبها بطقطقة أزرار آلتها الكاتبة القديمة فلم تكن تريده أن يحذو حذو الرجل النائم. ولبرودة الطقس الإنجليزي غالبا ما كانت رولينج تلجأ إلى المقاهي، طلبا للدفء الذي لا يتوفر في مهجعها، فتجد فرصة مواتية للكتابة بينما تلهو ابنتها أو تنام إلى جنبها.
عندما أكملت السيدة كتابها الأول، بدأت رحلة البحث عن ناشر، فتقاعس الجبناء الذين رفضوا المشروع مسبقا إلا أن الناشر الثالث عشر، في ترتيب من طرقت الكاتبة أبوابهم، فكر في منحها فرصة بعرض العمل على ابنته ذات الثمانية أعوام.. أجازت بنية الناشر القصة وألحت في طلب جزئها التالي.. عندها قرر الرجل مباشرة الطباعة وطلب من الكاتبة اختيار الأحرف الأولى من اسمها الذي سيظهر على الغلاف، كي يلتبس جنس الكاتب بحجة أن أطفال الإنجليز، قد ينفرون من قراءة مصنفات الإناث!
بعد نشر الكتاب الأول "هاري بوتر وحجر الفيلسوف" بدأت ظروف الكاتبة تتغير ببطء فتابعت رولينج في إنتاج سلسلة كتبها السبعة التي بدأ القراء يتلقفونها بحماس متزايد لدرجة أن الطوابير كانت تمتد أمام المكتبات كلما تقرر عرض كتاب من السلسلة بدءا من الرابع.. وأضحت سلسلة هاري بوتر على رأس قوائم الكتب الأكثر مبيعا وترجمت إلى لغات العالم وانبرى الممثلون لإخراجها في أفلام لم تكن أقل رواجا.. لم تنغمس الكاتبة في الرخاء الذي كفل شروطه المادية عائد السلسلة وإنما تابعت رياضتها الذهنية لتنتج كتبا أخري للكبار.. وما هي إلا سنوات حتى غدت زميلتنا من عداد الأثرياء حيث قدرت مجلة فوربس أن ثروتها تجاوزت مليار دولار أمريكي (سنة 2004).
حصلت رولينج على وسام الشرف البريطاني وأوسمة رفيعة في دول أخرى وفي سنة 2010 اختيرت كأكثر النساء تأثيرا في المملكة وتغيرت ظروفها العائلية بعد أن تزوجت طبيب تخدير أنجبت منه ولدين وبدأت تنسى جفاء القرين الأول الذي طاردها في البرتغال حتى احتمت منه في سفارة بلدها ولحق بها في انجلترا فلم يكف عن متابعتها إلا بعد أن استصدرت أمرا قضائيا يمنعه من التعرض لها.. باتت الكاتبة الآن من أكبر من يعول حزب العمال البريطاني على دعمه المادي واستثمرت في الأعمال الإنسانية ملايين الدولارات دون أن ينال الإنفاق من رصيدها المالي المتصاعد الذي يتسارع ارتفاع أسهمه كلما جلست للتأمل والتحرير.
أسرد هذه القصة لكتاب موريتانيا (رادها اعليهم) منبها إلى أنه لو توفرت لرولينج فرصة عمل مرضية وظروف عيش كريمة لاستسلمت للرخاء ولما تمكنت من رفع التحدي الذي سما بها إلى مراتب الإبداع العالمي.
يتواصل: الحلقة الموالية: رحلة كتاب كاسد.