في هدوء الليل جلست أستمع لعدد من أحاديث «تيد»، والتي هي مؤسسة معنية بنشر الأفكار الخلاقة وبتحفيز الخيال. كنت أستمع لحديث سايمون ساينك، وهو خبير مختص في إعطاء الاستشارات وتقديم الأحاديث حول تطوير الذات للأفراد والمؤسسات.
في حديثه ذكر معلومة اعتقدتها غاية في الأهمية، وجعلتني لأيام عدة أراجع توجهاتي وأفكاري وطريقة تقديمي لهذه الأفكار للقراء ولأي جمهور مهتم.
يقول ساينك ان الأشخاص دوما ما يريدون «شراء» ما تؤمن به وليس ما تصنع، بمعنى آخر، الناس تهتم بالـ»لماذا» لعمل ما تقوم به وليس بالـ»ماذا» التي تصنعها. يعطي ساينك أمثلة عدة على شركات وأفراد فشلوا في إيصال أفكارهم أو إنجاح مؤسساتهم لأنهم لم يعرفوا الناس بالـ»لماذا»، بغرضهم، بهدفهم، بإيمانهم بما يفعلون، في حين أن آخرين نجحوا نجاحا عظيما، أحيانا من دون توفر الموارد أو السبل، بسبب من إيمانهم العظيم بما يفعلون وشرح إيمانهم هذا وتبيان نواياهم. الناس تلتف حول الفكرة، إذا اجتذبت المؤمنين بفكرتك، ستنجح في إيصالها. ولطالما كنت أقول لمن يسائلني حول غرضي مما أفعل، أن لماذا تسيرين عكس التيار، تتحدثين فيم يغضب المجتمع، تعملين في قضايا لا تخصك، هل لك منفعة؟، هل تبحثين عن الشهرة؟، فأقول ان الهدف الشخصي ليس مهما، لم نبحث في الغرض؟ لم نسائل النوايا؟ فمهما أنا قلت وبررت وشرحت لن يكون لدي دليل على صدق قولي، لذا، لنركز على الفكرة، على منطقيتها وأهميتها ولنترك النوايا والإيمانيات الداخلية. يبدو أنني كنت أسير في الطريق الخطأ، فالناس تحتاج لأن تعرف نواياك، لأن تشاركك إيمانياتك، لأن تقتنع برؤياك، بحلمك، بهدفك، بمبدئك، ساعتها فقط يمكن لأحلامك أن تتحول إلى حقيقة. لذا، ها أنا أكتب على عكس ما كنت أكتب، سأفند نفسي وليس فكرتي. أنا سيدة عادية جدا، ربما تحت عادية في أمور كثيرة.
ليس لدي أي أملاك خارج الكويت ولا داخلها سوى بيت صغير في منطقة عادية حكومية، هو كل ما سأترك لأولادي من بعدي غالبا. كبرت في بيت ديمقراطي جدا، متحرر الفكر جدا، صارم المبادئ والمثل، متشدد في تطبيق الأخلاق.
فعلى سبيل المثال، لم تكن المشكلة في يوم ما هل الحجاب فرض أم لا، لكنها كانت لتكون مشكلة كبيرة إن أنا خاطبت العاملة في منزلنا بلهجة مترفعة أو ان سخرت ممن هم أقل مني حظا. ما زالت كلمة والدي ترن في أذني: الحظ فقط هو ما جعلك تعيشين عيشة طيبة آمنة، لا تستبعدي تغير الأقدار، فنجد أنفسنا عاملين في يوم عند من يكدحون في بيوتنا من أجل لقمة العيش. كان العلم عند والدي مقدسا، وكنت أراقب تبنيه للطلبة سنويا، وهي عادة يستمر عليها إلى اليوم، حيث يكوم ملفاتهم على مكتبه، يراجعها بنفسه بين الوقت والآخر، ويرينا صورهم وكأنهم إخوة لنا في بلدان أخرى. في بيتنا كان الدين محبة وشغفا، لم أسمع في يوم عن النار والعذاب والعقاب، كان الدين قصصا ساحرة، وتاريخا عظيما غامضا، وكانت تساؤلاتي، مهما تعمقت، مرحبا بها. لم تكن هناك خطوط حمر لأسئلتي أو آخرون مختلفون هدفا لكراهيتي. لم تكن هناك جهنم تحرق غير المسلم أو قبر يعذب غير المؤمن.
كانت هناك سبل عدة للخير، تختار منها ما تشاء، فلا تؤذي ولا تتأذى. الاختلاف رحمة والأسئلة نعمة والشك باب دنيا ملؤها الغموض والسحر والانبهار. بعد زمن، خرجت للعالم الكبير، ورأيت ما رأيت، غضبت فترة على والديّ، هل خدعاني؟ ثم غضبت على الدنيا، هل تغيرت بين سنوات طفولتي وبلوغي؟ ثم قررت أن أتوقف عن الغضب وأن أفعل شيئا. قرأت كثيرا وتساءلت كثيرا ثم فهمت أن صراعنا كبشر هو دوما على «الحقيقة»، على نسخة منها كل منا يعتقد امتلاكها، فكانت لي أنا كذلك نسختي التي آمنت بها وسعيت للدفاع عنها، حتى حضرني السؤال: كيف سنعيش جميعنا بكل هذه الحقائق وبإيمان كل منا المطلق بها؟ فأتى الجواب الوحيد المتوفر: قبول تعدد الحقائق والتعايش مع تعددها هذا، وتلك لعمري معادلة صعبة على البشرية، فكيف أعتقد بحق مطلق وأقبل «زيفا» يجاوره ويضاهيه في المكانة؟ هنا تبين لي أن لا يمكن أن يتم ذلك سوى بتطبيق ليبرالية اجتماعية تامة، نحتاج لتدريب مطول عليها، تحترم حرية الرأي والمعتقد والاختيار الحياتي، وبتطبيق علمانية تامة، نحتاج لأن نكافح من أجلها، تؤمن حيادية الدولة دينيا تجاه مواطنيها وتحمي حقهم في ممارسة أديانهم ودراستها بل نشرها.
أدرك صدق مقاصد بعض الأصوات التي تقول بالحكم الديني، فهو بالنسبة لهم الحق المطلق الذي لا يضاهيه حق آخر، وهي مقاصد تنبع من إيمان برحمة الدين وإمكانية انفتاحه على الجميع، إلا أنه من الصعب على من يؤمن بفكرة ويعيش بداخلها أن يرى المنظر كاملا، فالموضوعية تتطلب أن نخرج خارج دائرتنا لنشعر بما يشعر به «الآخر». دوما سيكون هناك من يخالفك رأيك من داخل ملتك أو من خارجها، ومهما حاولت أن تكون منفتحا وعادلا، ستقابلك خطوط حمر، وضوابط شرعية ستجد نفسك مضطرا لفرضها على من هم على غير ملتك، وليس هناك أسوأ من فرض عقيدة على غير صاحبها.
من هنا يتحول الاختلاف إلى خلاف، والحوار إلى جدال والمنظور الآخر إلى مصدر إقصاء.
ترعبني هذه الفكرة كل يوم، يرعبني أن أعيش معها سنواتي المقبلة، وأن يعيش في ظلها أبنائي وأحفادي من بعدي.
أنا أتصرف من منطلق الدفاع عن النفس والرغبة في العيش الآمن المسالم. لا غرض لي في محاربة دين، ولا هدف لي لفرض سيطرة مجموعة على أخرى، لا أسعى لتغريب حياتنا الشرقية ولا لإقصاء تقاليدنا التاريخية.
كما أنني أعلم أن هناك ثمنا باهظا للدعوة إلى الحرية والتعددية، فهما يعنيان أن نرى ونسمع ونتعايش مع ما لا نحب، وهي معاناة يحملها كل من يحيا في مجتمع حر تعددي، ولكنه ثمن بخس لهذه البضاعة الإنسانية الرائعة: بضاعة السلام، وهذا جل ما أريد: السلام.
د. ابتهال الخطيب