من الطبيعي أن يتوجه الحراطين إذا لم يستطيعوا أن يجدوا بأنفسهم المصادر الضرورية لمواجهة نموهم كمواطنين إلى الدولة، بوصفها المسؤولة عن مصائب وهموم من تسوسهم، وتعد استجابة الدولة لذلك واحتضانها لهم في مرحلة أساسية من تاريخ تحولهم خطوة مهمة باتجاه الوفاق الداخلي الذي يضمن التعايش ويسهل عملية الاندماج بين المكونات المتعددة داخل كيان هش- كالذي لنا- تتهدده المطالب المزمنة لتحديد الهوية ويعاني من غياب مفهوم مشترك لوحدته الوطنية .
من الشرف أن تداوم غالبية الحراطين بحزم وإيثار على السهر من أجل حماية هذا البلد من الانزلاق نحو الخراب والتشرذم الذي يلاحقه بسبب ما تنطوي عليه تصرفات الدولة من إقرار بفشل سياساتها الهادفة إلى إشراكهم، رغم علمهم أن ذلك يتم اجتزاءه من حقهم ومكانتهم بين مكونات المجتمع، لكن احتقار أكثر أبناء هذه الشريحة الوفية - ممن دأبوا على تأييد الحكومات المتعاقبة- لأغلبيتهم المريحة داخل البلد جعلهم يقفون في المكان الخطأ،لان ما يجدونه من مضاضة الظلم والغبن والإقصاء وعدم المساواة، وارتهان معظمهم للعبودية المكشوفة والمقنعة والجهل والفقر، كل ذلك يحصل بمباركة من هذه الحكومات التي تعودت سياسة التصامم والهروب إلى الأمام في جميع القضايا الوطنية الجوهرية.
ولقد ثبتت زيارات رئيس الجمهورية (لموريتانيا الأعماق) خلفية لصورة لم يستطع الصحفيون إسقاطها - رغم استخدام إمبراطورية إعلامية عامة وخاصة، فئوية ومتآمرة- مفادها أن الحراطين هم من يعمرون الأرض ويحمونها وهم أغلب من كان في استقبال الرئيس رغم إغفال مناطق آدوابة من برنامج الإعانة المتواضع الذي رافق الزيارات، وتجاوز كتوهات الإقامة الجبرية التي يسكنونها، حيث أعدوا محطاتهم لاستقبال الرئيس، بسبب استحكام الهيمنة القبلية والعشائرية التي عززت من صدارة فئة الله المختارة في تمثيل الشعب وأبقت على الحراطين حراسا في أرضهم لا مالكين و لا مأجورين.
أعلم يقينا أن القدر السيئ الذي يواجهه هذا البلد – أن يساس بمنطق المشيخة والقبيلة – لم يكن قدرا يسهل التخلص منه، لكن عدم المحاولة وسط استحكام واستمرار سيطرة نفس الفئات التي كانت متمترسة في زمن اللا دولة خلف السلاح والدين، وأورثتنا مسخا من الكيانات، دولة بين من يحكم بهواه، و من يتأول الأحكام ويعمل بالتقية بغرض الحفاظ على امتيازات الزمن الغابر، ساعين إلى ترك باقي المكونات في موقع الأتباع والغارمين، في عهد الحرية والعدالة والدولة الوطنية، مع المبالغة في إلزام الضحية بضرورة الكف عن مساعيه لفرض مفهوم المواطنة ودولة القانون لان ذلك يهدد الوحدة الوطنية. إن هذا لهو محض القصور في فهم ما تتطلبه المرحلة، وجهل بما يؤدي إليه التقاء الزمان والمكان في عالم الحقوق من نشوة وتفاعل يستحيل التراجع عنه، ولقد أهل زمان ذلك في هذه البلاد.
ولكي يحيلنا سوء القدر هذا إلى اليأس وتوقف الأمل في تصحيح ما أفسدته الفوقية غير المؤسسة على الدين القويم ولا على القانون عمدت السلطات المتعاقبة- بدلا من تساوي الفرص بين أبناء هذا البلد على أساس مبدأ الكفاءة أو اللجوء إلى محاصصة حقيقية تأخذ بالاعتبار التمثيل الديمغرافي لكل مكونة ( لبننة المشهد )- إلى تثبيت واجهة واحدة لوطن متعدد الأعراق، يتم احترام ملامحها في التعيينات والمسابقات العمومية والترقيات أما عن التمثيل الخارجي والمنح الطلابية والدخول إلى المدرسة الوطنية للإدارة - التي أصبحت المنفذ الوحيد إلى الوظيفة العمومية- فحدث ولا حرج.
لا يكفي هذا التجاهل والإقصاء القاتل لسحق الحق في الاختلاف الحاصل والذي تكفله جميع المواثيق، أو نفي الخصوصية الثقافية والاجتماعية وحسب بل يتجاوز ذلك إلى حد الإدماج القسري لشريحة لها ما يميزها في الأصول و الفلكلور وحتى في الحياة الاجتماعية ونمط العيش، وهو ما قد يدفع بمن لا يؤثرون على أنفسهم من أبناء الحراطين إلى جعل التراب في الطعام الذي لا يشاركون فيه، ويضطرهم للخروج على دعاة الاعتدال من الشريحة، بحجة أن السلطات لم تكتف بالارتكاز على وطنية أصحاب هذا النهج فقط، بل عمدت إلى تفريخ ما تحتاجه من تنظيمات بحسب المرحلة، أشبه ما تكون بأظافر القدم ( لا تحك ولا تزيل الشوك) لتثير الغبار حول رواد القضية فتعيق رؤيتهم وتقدمهم، لكنها بدت مجرد دمى للإلهاء والمناورة وأداة للهروب والمماطلة في مواجهة واقع أصبح كالشر الذي لابد منه، وهو تصرف وإن كان ساهم في اتساع رقعة الوعي بما تعانيه هذه الشريحة من غبن إلا انه يهدف بالأساس إلى التقليل من تركيزها وإضعاف قوة الراسخين فيها وتفريغ الدائرة من حولهم لتقويض قدرتهم على الضغط.
إن أكثر ما يحز في نفوس قادة الحراطين الذين يرجع لهم الفضل في كسر الممارسات الطقوسية المقدسة للتراتبية الكاذبة داخل المجتمع الموريتاني، وفرض الاهتمام بقضية شريحتهم وطنيا ودوليا - ولا يحركهم اليوم سوى طلب العدالة المحضة بين أفراد هذا الشعب - هو ذلك الاستعداد المستمر للمواجهة المحتملة من طرف أصحاب الشأن، من خلال فرض واقع من التفوق الفئوي وحمايته في هذا الوطن المشترك. وبما أن الدولة هي من يقرر إن كان حقا أو باطلا،- من يحق له أن يكون موظفا، ومتى وكيف تتم ترقيته، ومن لا يجب أن يحبسه عدم كفاءته عن التوظيف، ومن ينبغي أن يعلق بمصيدة الملونين، (حيلة التقويم الشخصي) في المسابقات، و من يجب أن ترسو عليهم الصفات المربحة فينامون فقراء ليستيقظوا أغنياء- فإن الدولة التي تقرر كل ذلك هي التي ترعى عن قصد أو غير قصد تطوير الفوارق المدمرة بين رعاياها وتستمر في بناء طبقة رأس مالية مسيطرة ترى في العدالة والمساواة عدوا لتميزها واختلافها.
وحتى تتخلى الفئة المسيطرة عن اختلافها من أجل تساوي الجميع في دولة مدنية وتقبل بإشراك الأكثرية التي تقع خارج شجرة النسب والعصبية القبلية المعقدة فان استقراء مجريات التاريخ المحيط بقضية الحراطين لا يغير من واقع هذه الشريحة البائسة شيئا إذا ما ظل يراوح بين التحليل والخوض في الأسباب و البحث في شرعية المسألة من عدمها - فقبل أن تعرف إن كانت الفراشة ذكرا أم أنثى تموت الفراشة – لأن مظلمة بهذا الحجم تقع على كم بشري يشكل أكثرية هي حالة استثنائية بين الحالات النادرة التي عرفت من تاريخ ظلم الدولة، ولا يمكن الإفلات من عواقبها إلا باتخاذ مواقف شجاعة وخصوصية من قبيل:
إنشاء دولة قانون حقيقية تجسد مفهوم المواطنة وتكون مسؤولة عن حماية حرية مواطنيها وتوفير العيش الكريم لهم ولا تمارس عليهم أي نوع من أنواع الإرهاب و الظلم وتمتلك إرادة حقيقية للقضاء على ظاهرة العبودية، بوجود عدالة غير منحازة تمتلك الاستقلالية التامة لتطبيق جميع القوانين المحرمة والمجرمة للظاهرةـ واعتماد إجراءات مصاحبة تختلف عن تجربة وكالة التضامن الدعائية، والمحكمة المعطلة، وتطبق العدالة الانتقالية لتمكين المظلومين من الاستفادة من التمييز الايجابي لتخفيف الهوة الاقتصادية بين المواطنين، وإزالة ما من شانه أن يؤدي إلى تعميق الانشقاقات والتفاوت.
و الأشمل الأعم أن تضمن هذه الدولة توفير منظومة تربوية جمهورية تعتمد على مدارس نظامية مفتوحة أمام الجميع تكون محمية من نظام التاشرونة الراقية (العقدويين) التي تستوطن هذه المنظومة بعد أن تم تحريمها وطنيا، و يتم إلغاء المدارس الحرة ومدارس الامتياز سيئة السمعة، ضمانا لإبعاد ما يخلفه ذلك من ترسيخ الفئوية وما يسببه من الافتقار إلى الاعتراف المتبادل بين مكونات المجتمع.