ولما كان العقل محدود (74) والمحدود لا يستطيع أن يتصل بغير المحدود شاء الله العظيم الخالق المدبر أن يتصل هو بنا. ثم أتت رسل تخبر أنها أرسلت من الله، ببراهين تفوق عقل الإنسان، فأتى موسى وعيسى ثم محمدا صلى الله عليه وسلم فعلى هذا يكون البرهان الذي يأتي به
الرسل هو المعجزة البشرية التي تثبت حقيقته وتبين هويته، وتظهر رسالته وتؤكد بأنه رسول من عند الله. والمعجزة الأخيرة هي القرآن الكريم الذي أتى يجدد من الناحية الشرعية علاقات الإنسان بنفسه وبخالقه الكريم، وبغيره من بني الإنسان. والقرآن الكريم إما أن يكون من عند العرب وإما أن يكون من عند محمد صلى الله عليه وسلم وإما أن يكون من عند غير العرب. فأما انه كان من عند العرب فباطل لأنهم قاوموه وحاربوه ووصفوه بالسحر واتهموه بالكذب، وأما انه كان من عند غير العرب فباطل أيضا لان الإنسان الذي يعيش لغة فيعبر عن آلامه وفرحه بأسلوبها ونسجها لا يمكن أن يجاريه ويباريه الذي يريد أن يتعلمها وخاصة إذا تساويا بالمعلومات وبالقدرة على الفهم، وإما انه كان من عند محمد فباطل لان محمد إنسان والإنسان لا يمكن أن يصل إلى واحدة من هذه الشروط الثلاثة: 1_لا يمكن للإنسان أن يسبق عصره 2_ لا يمكن أن يتحدث عن شيء ما لم يسبق هذا الشيء إلى دماغه من واقعه الذي يعيشه. 3_لا يستطيع أي إنسان أن يتحدث عن عصرين مختلفين أو أن يتحدث بأسلوبين مختلفين. وهذه الشروط الثلاثة أتت عن طريق محمد صلى الله عليه وسلم فاثبت معجزته ودمغت الباطل إلى يوم الدين وهي موجودة وميسورة لكل إنسان يريد أن يتفكر أو ألقى السمع وهو شهيد. ولو اطلعت أيها الإنسان المفكر لأدركت الفارق الكبير(75) بين الحديث والقرءان الكريم وأيقنت أن القرآن الكريم هو من عند غير صاحب الحديث أي من عند غير محمد صلى الله عليه ولو اطلعت على الشعر والنثر الجاهلي وما كان يحيط (76) بمحمد بن عبد الله لأيقنت أن هذا القرآن لم يسبق إلى دماغ محمد صلى الله عليه وسلم شيء من الواقع الذي عاشه. فإذن يكون القرآن الكريم لم يتحدث به احد من قبل محمد صلى الله عليه وسلم. فما هو القرآن ؟! وما الخصائص التي تبرهن على أنه من عند الله ؟! ولماذا اتخذناه مثالا في دراستنا من بين جميع الكتب السماوية والعقائد الفكرية الأخرى؟! وإذا كان القرآن والسنة النبوية هما مصادر الإسلام فهل يكون هو دين الفطرة الذي تنشده الإنسانية ؟!! القرآن هو: اللفظ العربي المعجز المُوحَى به إلى محمد صلى الله عليه وسلم المتعبد بتلاوته والواصل إلينا عن طريق التواتر.وهذا التعريف يشمل قيودا أربعة هي: أولا.المعجز: ويقصد منه ما اتصف به القرآن من البلاغة والبيان الذين أعجزا بلغاء العرب كافة عن الإتيان بأقصر سورة من مثله، رغم التحدي المتكرر، ورغم التطلع الشديد لدى الكثير منهم إلى معارضته والتفوق على بيانه. وللقرآن وجوه غير هذا الوجه في إعجازه، ولكن الوجه المقصود منها عند التعريف هو هذا. ثانيا.الموحى به: ومعناه المنزل عليه من الله عز وجل بواسطة جبريل، وهذا أهم قيد في تعريف القرآن وتحديد ماهيته. ثالثا.التعبد بتلاوته: والمقصود به أن من خصائص هذا الكتاب الكريم أن مجرد قراءته تكسب القارئ أجرا ومثوبة عند الله، وأن ذالك يعتبر نوعا من العبادة المشروعة، وأن الصلاة لا تصح إلا بقراءة شيء منه ولا يغني عنه غيره من الأذكار أو الأدعية أو الأحاديث. رابعا: وصوله عن طريق التواتر. ومعناه أن قرآنية آية من القرآن لا تثبت حتى تصل إلينا بطريق جموع غفيرة لا يمكن اتفاقها على الكذب، ترويها عن جموع مثلها إلى الناقل الأول لها بعد أن تنزلت عليه وحيا من الله عز وجل، وهو سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام. ويعقب الدكتور البوطى على هذه التعاريف في كتابه المتميز«من روائع القرآن». الذي اعتمدناه لشموله ومنهجيته, أن هذه القيود الأربعة في التعريف,تبين حقيقة القرآن خالية من كل الشوائب أي ليس بالحديث النبوي أو القراءات الشاذًًة أو الحديث القدسي أو الترجمة الحرفية أو غير الحرفية للقرآن.إذ الحديث القدسي ليس بمعجز والقراءات الشاذة غير متواترة, والحديث القدسي غير معجز, ذالك لأن اللفظ فيه من الرسول صلى الله عليه وسلم, والترجمة ليست هي اللفظ المنزل. وهذا ما جعل عامة الباحثين من علماء العربية والتشريع والفلسفة والفرق المختلفة يجمعون على أن القرآن معجز. وأن لهذا الإعجاز تعريفان: أولهما: هو المعتمد لدى جمهور العلماء والباحثين. والثاني: تفرد به أبو إسحاق إبراهيم النظام (ت:231) اللغوي ألمعتزلي المعروف، ثم تبعه في ذالك بعض الناس من فرقته وجماعته. وحسب التعريف الأول: فإن القرآن قد سما في علوه إلى شأو بعيد بحيث تعجز القدرة البشرية عن الإتيان بمثله، سواء كان هذا العلو في بلاغته أو تشريعه أو مغيباته. أما التعريف الثاني: فهو أن الله قد صرف قدرات عباده وسلب همتهم وحبس ألسنتهم عن الإتيان بمثله. ويرى البوطي(77) أن الفرق بين التعريفين هو أن مصدر الإعجاز في التعريف الأول علو منزلة القرآن عن مستوى الطوق البشري، أما مصدره في التعريف الثاني فهو حبس القدرات وصرف الهمم عن معارضته وتقليده، أي فهو قد يكون، والحالة هذه غير بعيدة في منزلته البلاغية عن طاقة البشر ، ولكن الله ، تصديقا لنبيه ولطفا به، صرف الناس عن تقليده ومحاكاته. مرجحا تعريف الجمهور لأنه أقرب للعقل والفهم ومستبعدا تعريف النظام ومن تبعه لعدم اعتماده على العقل والمنطق. ولم يكن البوطي هو الوحيد الذي انتقد هذا التعريف بل هناك الكثير من الباحثين ممن ردوا عليه حتى أن الجاحظ سخر منه. يقول الإمام البقلانى في كتابه إعجاز القرآن:...يتواصل...