يأتي أي رئيس وفي ذهنه فكرة أن يحكم الدولة، ولكن تلك الفكرة لا تلبث أن تكبر وتتحول إلى فكرة أن يملك الدولة، في الأحوال العادية يتطلب الأمر عقدين أو أكثر من الحكم تنمو خلالهما تلك الفكرة، تدريجيا، يغذيها تصفيق الجماهير المحشورة قسرا في ساحات الاستقبال، وانحناءات أصحاب الهيئات
من مثقفين وساسة ورجال دين أمام هامة الرئيس المعصوبة بتاج من الجليد يخيل إليه بعد فترة أنه تاج ملك حقيقي، بالنسبة لرئيسنا لم يتطلب الأمر كثير وقت، ليس الأمر غريبا، فهناك من لديه قابلية مفرطة للتحول إلى ملك، ولو من ورق وخزف وخردة، يبدو الرئيس من هذه الفصيلة بالذات.
الفرق بين أن "يحكم" الرئيس الدولة وبين أن "يملكها" كبير جدا، الحكم يعني في معناه السياسي الإدارة وفي معناه العسكري السيطرة، ولكن الملك يعني في كل معانيه أن الدولة جزء من مكتسبات الحاكم المادية والمعنوية أو من ميراث أجداده وله حق توريثه لمن شاء، حتى ولو عبر صناديق اقتراع شكلية.
يبدو ولد عبد العزيز مولعا بتجربة العقيد الراحل معمر القذافي، وللأمانة بين الرجلين أوجه شبه عديدة، حتى في آخر كلمة قالها العقيد: من أنتم؟ ألم يقل ولد عبد العزيز في لقاء الشعب إن علينا أن نحمد الله عليه فقد كنا قبله لا شيء، الحمد لله الذي لا يحمد على "مكروه" سواه، كما يتشابهان أيضا في الرتبة العسكرية، كلاهما عقيد، أما رتبة الجنرالية هذه فهي إحدى قطع تاج الورق الذي يريد الرئيس أن يعصب به رأسه المشحون استبدادا وعنجهية، لا أقل ولا أكثر، حتى رتبة عقيد لم يستحقها بجدارة، وإنما أعطيت له دون استحقاق.
تحضرني هنا مقولة الملك الحسن الثاني رحمه الله عن الزعيم الليبي: "نام لصا واستيقظ رئيسا"، يمكن تحوير المقولة لتصبح في صالح ولد عبد العزيز: نام لص شارع واستيقظ زعيم عصابة، حول القذافي ليبيا بكل تاريخها وإباء شعبها إلى أملاكه الخاصة، تحول الجيش إلى مليشيات منها كتائب القذافي وهي قوات مسلحة تقوم عقيدتها العسكرية على الإيمان بالقذافي لا بليبيا كدولة، وليست لها صلة بالجيش النظامي الليبي رغم أنها تفوقه تجهيزا وتدريبا، تماما ككتيبة الحرس الرئاسي عندنا.
ومنها كتائب تتبع حسب المزاج لعنقود العائلة سيف الإسلام وهانيبال وعائشة والساعدي إلخ، تماما كما يتبع الأمناء العامون للوزارات وإدارات الدولة للسيدة الأولى في القصر الرمادي، وكما تتبع مؤسسة الرحمة لنجل الرئيس أحمد، وكما تتبع لبدر بن عد العزيز بندقيته المعبأة ذخيرة، تنقصنا فقط الساحة الخضراء والكتاب الأخضر، أما الخيمة والرداء فقد اعتضنا عنها بالعمائم الملونة بيضا وزرقا حسب ذوق الرئيس للألوان.
يحاول بن عبد العزيز دائما أن يتستر على نزوع نفسه الأمارة بتحويل موريتانيا إلى ملك عائلي وتحويل شخصه إلى أحد ثوابتنا الوطنية التي يعتبر المساس بها جريمة لا تغتفر، ولكن الخليقة تغلب التخلق دائما، ورغم القول الشائع أن المستبد تخلقه الجماهير، فإن رئيسنا مجَّ الضرعين معا؛ قابلية قوية للتسلط، ونخبة مستعدة للنفخ في بالونة روح الحاكم حتى تنتفخ أوداجه، باختصار عندنا رجل يزن البغدادي المحمودي صديق القذافي وأكثر هو سيد محمد بن محم، كما لنا شعراء وفقهاء بلاط والهابا من وراء ذلك ظهير.
كيف نفهم بيان الهابا الأخير الذي يتحدث بكثير من الوعظ السمج عن حرمة عرض الرئيس وعن مكانته وجلاله وعظمته وقدسيته وكبريائه، والذي يهدد بتطبيق القانون على من يخالف ذلك، كيف نفهم هذا إلا في إطار لجوء الرئيس العاجز عن ردع ذويه المعتدين على ضعفة الشعب والوالغ في الفساد حتى أذنيه إلى مؤسسة صنعها على عينه كي تحميه من رمضاء النقد المستحق، أتوقع في بيانها القادم أن تلزم الصحافة والكتاب بصيغة معينة لإيراد اسم الرئيس، مثلا (السيد الرئيس المحترم حفظه الله)، وبعدها سيسن قانون يعاقب من يكتب اسمه مجردا، أظنني سأكون أول ضحايا ذلك القانون.
أما جمعية الرحمة "الخيرية" التي بدأت أعمالها أمس بتوزيع الأدوية فهي البداية الفعلية لمشروع توريث واضح لا ريب فيه، فالرئيس الذي يرى استحالة تغيير الدستور لمأمورية ثالثة أو أن ذلك قد يؤدي لسقوطه بانقلاب أو غيره؛ يريد أن يضمن استمرار حكم السلالة النقية للعائلة الأميرية من خلال رئيس يأتي من بعده اسمه أحمد بن عبد العزيز، وحينها سيتحول بدر إلى رئيس للحرس الرئاسي وتتقاسم بقية العائلة ما بقي من مناصب حساسة.
الأسئلة الموجعة لهذه الهيئة تبدأ بسؤال من أين لك هذا، وترفقه بمقترح قديم هو: لك الله "لا تسرق" ولا تتصدق، ستتولى الجمعية امتصاص مصادر الرزق في الدولة: التجار الذين ستبتزهم فيخصصون لها مبلغا ثابتا من مداخيلهم، الجمعيات الخيرية الدولية التي ستكون وكيلهم الحصري وإن لم يقبلوا فالطرد مصيرهم، وخزينة الدولة التي ستنفق بسخاء عليها، أما المواطن فلن يصله منها إلا خبر ولافتة ودعاية ممجوجة، هي باختصار وسيلة أخرى لجمع المال الذي لا يشبع صاحبه إلا بالتراب.