النشيد الوطني:مضت،الآن تسع سنوات على مقال كتبته حول النشيد الوطني و ضرورة مراجعته بما لا يضر إيقاعه، على ما فيه من رداءة ،لأن الناس قد تعودت موسيقاه ، ذكرتُ فيه أن الرئيس السابق معاوية بن الطائع كان قد طرح الموضوع وكلف ــ على حد علمي ــ شعراء بتقديم ما تجود به قرائحهم وتصوراتهم للبحث فيها عن بديل للكلمات الحالية، وأستطيع أن أقول إنني كنتُ
احدهم، وأن شيخنا العلامة قدم قطعة منظومة لذلك الغرض ، وهو من أخبرني، وكان يعلم أنني قدمتُ نموذجاً آخر، وبطبيعة ذ لك الحكم.
يبدو أنه كان مطلوبا من كل منا أن لا يبلغ الآخر: أعني جميع المعنيين وأخمن أنهم كانوا أربعة، منهم من ذكرتُ، كان ذلك منتصف سنة 1990، وسبق أن طلب مني بواسطة أحد وزرائه ، سنة 1986نصا لذات الغرض سلمته للوزير المعني ، الذي عاد بعد أسبوع ، ليطلب مني حذف مقطع يحمل اسم أحد رموز تاريخنا الوسيط ، مما يدل على الاهتمام والمتابعة وفي غضون تلك المرحلة عزل الوسيط من منصبه و توقف الأمر، إلى أن كلمني الرئيس الأسبق مباشرة و تبادل معي الحديث حول النص الأول الذي أعدتُ اقتراحه عليه مع تغيير بسيط،، ومن الطريف أنه كان يظن الكلمات من شعر الوزير/ الوسيط... فهل كانت ادعاء من صاحب المعالي أم ظنا من صاحب الفخامة؟؟ ! وتلاحقت أحداث أخرى و تبدلت مواقع و مواقف.. وضاع الخيط .. واحتفظتُ إلي الآن بالنـــــــــــــصين.
ولا يعني إيراد القصة إلا التأكيد على أن السلام الوطني، كغيره من رموز الدولة مرتجل النشأة تجاوزه وعي الناس وتستدعي عملية تجذير الرموز لخدمة المرموز و المرمَّز أي الوطن والمواطن ،و أن مسألة إعادة النظر الجزئية في بعضها دون البعض اجتزاء لمشروع ثوري وطني ديمقراطي الوسيلة جامع النتائج ....
إعادة التأسيس
لأنني أعتبر التلازم بين روافد التجديد ،أمرا مُلحا وأن المطلوب في حالتنا هوما سميته ولا أزال أسميه (إعادة التأسيس)، لأن الدولة التي هي ــ من حيث التعريف ــ "مشروع تعاقدي بين جماعات وأفراد يقررون بموجبه التنازل لها عن جملة من حقوقهم مقابل أداء جملة من الخدمات"، وأننا في حالتنا ــ نحن الموريتانيين ــ لم نتواضع علي شيء من هذا القبيل ، بل جاءتنا الدولة مفروضة ، قسراً، على مجموعة من الكيانات القبلية والإماراتية ، بقرار من نخبة متحكمة تساندها قوة استعمارية غاشمة ، فتحولنا إلى دولة جنينية تكونت خارج رحم مجتمعها...فإنني أرى أن هذا الكيان بعلمه ونشيده الوطني و مظاهر سيادته أصبح أمرا واقعا تعودناه ، علي عجره و بجره، بالتعايش والترابط ،قد تولدت منه حقائق جميلة أصبح الحفاظ عليها أولى، في غياب واستحالة خلق البدائل، و عليه و به فإن الأولوية ،الآن ،هي قبل كل أولوية الحفاظ عليه كما هو ...حتى نتفق على ما نريدله أن يكونه، وبالأساليب الحضارية والقانونية حصرياًّ.
ولكن المؤسف أن الدعوة إلى نقاش وطني يتناول المصير و المقدرات لم تعدتجد أذنا صاغية لأن ثمة مجموعة من العربات تبدو جاهزة لتوضع أمام ثور واحدٍ لتجرَّه .. و جر الثور بعربة واحدة أمرٌ فيه نظر، أحرى بعربات عديدة.
لكن ...من نحــن ؟
إن أهم مسألة(والمسألة أكبر من المشكلة) مطروحة علينا حالا هي تحديد معالم مجتمعنا وفقا للمقاييس المتعارف عليها : فمن نحنُ؟ لأن الهوية هي المحدد الأول الذي يجب ان لا يكون موضوع ولا موضع مناكفة.. ومن هنا نبدأ ، فالناطقون باللهجة العربية الحسانية كيفما كانت الأصول العرقية التي جاءوا منها ( نانمه، أفارقة زنوج ،بربر، عرب، بافور، موريسكيين، بقايا علوج بحر،هنود حمر، بقايا طوف بواخر الملاحين الفينيقيين إلخ)هم مجموعة منسجمة تنتمي حضاريا إلي لغة واحدة تطرب لفن واحد و تخضع لمنظومة قيم واحدة بنفس المعايير.. ولا عبرة بلون البشرة في الانتماء إليها، كما هو الحال كونيا، فلم يكن اللون ،يوما واحدا ، أداة توحيد أمة ولا عرق و لا شريحة ؛ ففي بلادنا بشرة السوننكي و التكروري و الولفي والكثير من الشرفاء و العرب و الحراطين واحدة، فهل هذا يخلق انسجاما، وهل جعلت البشرة الصفراء الصيني و الفيتنامي و الخميري و الكوري والماليزي شعبا واحدا؟ و أوربة البيضاء التي تحاربت مئات السنين طيلة الألف سنة الماضية ولم تتسالم إلا منذ أقل من سبعين سنة ، وحدها اللون؟وهل قبل الباسكي أن يكون فرنسيا إلا با لجنسية، قسراً، وهل "تأسبن" إلا بالقهر؟.. تلك حقائق و مسلمات أوضح وأقرب من أن يضرب لها أو بها مثال..
العبودية
إن الإحساس بالظلم والغبن التاريخيين شرعي و وارد بل واجب، وهو وقود كل ثورات الدنيا من نشأتها إلي اليوم.. والفظائع التي ارتكبتها أجيالنا السابقة و دأبت عليها ،بعض اللاحقة، جرائم يندى لها الجبين وتنهد لها الجبال هدًّا، و واجب المجتمع قبل الدولة ومعها، أن يكفر عنها دينا ودنيا بالتعويض المعنوي بكل ما يصل إليه خيال المنصف الملتاع المرتاع، و بالتمييز الإيجابي في كل مناحي الحياة لطم الفجوة و ضم الجفوة في مصالحة تسبقها مصارحة مع الذات.. تتوج بنقد واع للتاريخ، شريطة عدم إسقاطه علي الحاضر ،إذْ أن العبودية والطبقية حالة و مرحلة بشعة حيوانية مرت بها جميع الأمم و الشعوب، ولم تتخلص منها اوربة إلا قبل قرن ، استمرت بعدها في أمريكا ناهيك عن ماكان يمارس بالأمس القريب في إفريقيا الفصل العنصري..
لمعلمين
يبقى الظلم المعنوي ،أساسًا، والماديُّ بدرجة أقل، الناجم عن السيبة المبنية علي الهمجية وغلبة الأقوى لحظته، التي يمارسها بحقارة و بشاعة منقطعتيْ النظير علي المغلوب حتى و لوكان أخاه...
والأمثلة أكثر من أن تُحصى، وآلمُ نتائجها "تشريح المجموعات" ، بالمعنى الجراحي الذي يقطع الجسم الواحد حسب حاجة(الأقوي) إلي من يخدمه، في نموذج وحشي رهيب، كحالة "المعلمين"، و "إيكاون" ،و" اللحمة "و ما أدريك ما حالة اللحمة، وحالات تخص البحر والمدن القديمة: عمال التطهير و التأبير "الحمريين" و"المرابطيين"، و"الطليبة: ...
وكل شريحة من هذه الشرائح تلصق بها جملة من المهازل تَـنَدُّرًا وطيرة وتبخيساً، وهي مسلكيات و(ممنوعات) يجب أن تُناقش جهارا نهارا و تتخذ الأمة خارطة طريق للقضاء عليها لأنها داء ينخر جسم المجتمع و يخلق فيها مسالك للوَهَن يسلكها الصادقُ المظلومُ ويستغلها المتآمر النموم، وتَجُرُّ إلي خراب المجتمعات و ذوبان الهويات في أتون الفتن ما ظهر منها وما بطن...جَـنبنا الله ذلك بتكاتف جهود المثقفين والكتاب وأرباب التنوير والنخبة الفاعلة الوطنية المستنيرة الحريصة علي البلاد والعباد من أجل قيام دولة المواطنة القائمة علي العدل والأخوة والمساواة!!