يصدمنا مقتل الجنود المصريين في واحة الفرافرة، ويحيرنا أن يصبح استهداف الجنود طقسا سنويا. في عام 2011 قتلت إسرائيل ستة منهم، وفي 2012 قتل مجهولون 16 جنديا آخرين في جنوب رفح. في 2013 قتل 26 من رجال الأمن المركزي على الطريق الحدودي غربي رفح، هذا العام 2014 قتل 21 من ضباط وجنود القوات المسلحة في الوادي الجديد.
باستثناء الجريمة التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية في عام 2011، فإننا لم نعرف على وجه الدقة المسؤولين عن بقية الجرائم، صحيح أن الشبهات أثيرت حول بعض الأطراف إلا أننا لم نتعرف على الفاعلين الحقيقيين، فيما هو معلن على الأقل. وهذه الثغرة غطاها الإعلام والذين يدعون أنهم خبراء إستراتيجيون، إذ وزعوا الاتهامات تبعا لاتجاهات الريح السياسية، فأشاروا إلى حركة حماس تارة وإلى تنظيم القاعدة تارة أخرى، ثم أنصار بيت المقدس في حين ثالث، وأخيرا حين تصاعد الصراع ضد الإخوان، فإن المسارعة إلى اتهامهم صارت تقليدا، تنافس كثيرون في المزايدة عليه.
لقد ذرف كثيرون الدموع، ولطموا الخدود وشقوا الجيوب، واستهلكوا حناجرهم في ذم الجناة والتنديد بجرائمهم التي اتهموا بسببها بالعمالة والخيانة وبالضلوع في المؤامرات التي تحاك ضد مصر. وسواء كانت تلك المشاعر حقيقية أم مزيفة، فلا يشك أحد في أنها مبررة ولها ما يسوغها، إلا أننا خرجنا من كل تلك البكائيات والإدانات بحصيلة كبيرة من مشاعر الغضب والسخط على الفاعلين، دون أن نفهم من هم، وما هي حقيقة أهدافهم، وما هي الظروف التي مكنتهم من ارتكاب جرائمهم والإفلات من العقاب.
سأضرب مثلا بما حدث في فاجعة الفرافرة التي وقعت مساء السبت 19/7 ذلك أن المعلومات التي نشرتها الصحف المصرية بخصوصها أبرزت ما يلي: < إن الهجوم على الموقع العسكري ليس الأول من نوعه، ولكن الموقع ذاته تعرض لهجوم مماثل في 31 مايو الماضي ــ قبل نحو 50 يوما ــ مما أسفر عن مقتل خمسة جنود وضابط. ولم يعلن عن ذلك في حينه وإنما تم تعزيز الموقع بآخرين بلغ عددهم 25 فردا من رجال القوات المسلحة، كما تبين أن إحدى السيارات التي استخدمت في الهجوم الأخير سرقت من ضابط حرس الحدود في الهجوم السابق. (المصري اليوم 21/7).
< قام أحد أصحاب الشركات السياحية بالواحات البحرية ــ اسمه عز عبد الرحيم ــ بإبلاغ جهة سيادية قبل وقوع الحادث بخمس دقائق بوجود سيارتين متوقفتين على بعد 500 متر من موقع الكمين وفي إحداهما أسلحة، في حين أن الثانية كانت ترفع علما أسود. وقد شاهدهما أحد سائقي الشركة الذي أبلغ رئيسها بما لاحظه، وروى أحد ضباط الموقع أن قائد الكمين النقيب محمد درويش طلب قوات احتياطية لصد الهجوم، لكنها وصلت إليه بعد نحو ساعة من مكان يبعد 60 كيلو مترا عن الكمين (المصري اليوم في العدد ذاته).
< قال مصدر أمني إن المجموعة التي ارتكبت الجريمة تضم عناصر تكفيرية انتقلت من سيناء إلى الوادي الجديد بعد الحملات التي شنتها القوات المسلحة في سيناء واستهدفت البؤر الإرهابية ومعاقل الإرهابيين (الأهرام 21/7) إلا أن مصدرا أمنيا آخر ذكر أن الجناة ينتسبون إلى تنظيم القاعدة في ليبيا، وأضاف أنهم كانوا ملتحين وذوي ملامح أجنبية وشعورهم طويلة، كما أن أحدهم كان يحمل خنجرا معقوفا (الشروق 21/7). أضافت جريدة «الوطن» الصادرة في اليوم ذاته أن الجناة جاءوا من سيناء منذ أكثر من شهر وتمركزوا في مناطق وعرة بالصحراء تخفوا فيها. < الصحف التي صدرت أمس (الثلاثاء 22/7) تحدث بعضها عن قدوم الجناة من ليبيا، بينما نقل البعض الآخر تصريحات بمصادر أمنية ذكرت أنهم جاءوا من سيناء. وفي حين أفتى أحد «الخبراء» بأن هناك ارتباطا بين مجزرة الفرافرة والحرب الدائرة في غزة. وأن المستهدف هو إحراج الجيش المصري (جريدة الوطن 22/7) وذكرت جريدة «التحرير» أن إخوان ليبيا لهم علاقة بالمجموعة، في حين قالت جريدة «الشروق» إن العناصر الإرهابية الليبية دخلت إلى الحدود المصرية بمساعدة عناصر تكفيرية ومهربين.
ما سبق يستدعي ملاحظتين، هما:
< إن المعلومات الخاصة بالجناة لم تتوفر بعد، وإن المتوافر حتى الآن هو مجرد قرائن واستنتاجات. يخشى أن تكرر ما سبق، حين ينجح الفاعلون في طمس معالم جريمتهم ويظلون مطلقي السراح وجاهزين لمعاودة أنشطتهم في أماكن أخرى.
< إن هناك إهمالا في تأمين الكمائن والجنود، وقد نوهت إلى ذلك جريدة «التحرير» حين أبرزت عنوانا بذلك المعنى على صفحتها الأولى أمس، نقلت فيه عن بعض الخبراء قولهم إن «التقصير الأمني على الحدود وراء تكرار الحوادث الإرهابية». وبعض ما ذكرته قبل قليل من قرائن ذلك التقصير (الهجوم قبل نحو شهرين على ذات الموقع وسرقة إحدى سياراته تم استخدامها في معاودة الهجوم، ومعلومة إبلاغ الجهة السيادية بوجود سيارتين مشتبه بهما بالقرب من الكمين). كما أن الأهرام في عدد 22/7 نقل عن محافظ الوادي الجديد السابق اللواء محمود خليفة قوله إنه سبق له أن حذر من تحويل الوادي الجديد إلى سيناء أخرى. نتيجة لعدم الاهتمام بتنمية تلك المساحات الشاسعة (حدودها بطول 700 كم مع ليبيا و800 كيلو مع حدود السودان) والاكتفاء بتركها لحرس الحدود وحده لكي يتولى أمرها.
إن الاهتمام بضبط الجناة ومحاسبتهم أمر مهم لا ريب، لكن تحديد المقصرين ومحاسبتهم لا يقل أهمية، والمهمة الأولى تتطلب كفاءة في التحري والضبط، أما الثانية فتحتاج إلى شجاعة وجرأة في نقد الذات، وخبرتنا تدل على أننا نجيد الأولى أحيانا، في حين نعزف عن الثانية.