لم يـُـفهم سقراط، في دعوته إلى العدل، إلا بعد قرون من تسميمه وقتله، ولم يـُـفهم كوبرنيك فى دحضه لتعاليم الكنيسة ومغالطاتها إلا بعد قرون من حرقه.. ولم يـُـفهم رسول الله صلى الله عليه و سلم – ولله المثل الأعلى- حتى اليوم ! ولم يـَـفهم بن علي إلا ساعات قليلة قبل هروبه...
إن سبب كل المشاكل الكونية هى سوء الفهم (أو تأخره)، عن قصد أحيانا قليلة وعن قصور وكسل ورعونة أحيانا كثيرة.
وإن الإسلام – عندنا – قومية ضيقة وعصبية جاهلية.. فقد ساهم الأسراف منا (لا أسلافــ"نا") فى إبعاد الآخر عن الإسلام، لأنهم قدموه على أنه "إسلامهم ودينهم وكتبهم..."، كما هو الحال بالنسبة للغة العربية من المنظور القومي التراتبي..
ألم يقل العلامة -بحق- روجى غارودى، انه يحمد الله "على أنه عرف الإسلام قبل أن يعرف المسلمين"، فالعادات الجاهلية أقوى عندنا بكثير من تعاليم الإسلام: الإسلام الذى هو أفعال وأخلاق واستقامة!! لا إسلام الصوامع والمغارات والكتاتيب القائمة على التمييز والإقصاء ومنع "الماعون".
اخى الأستاذ الخليل، لقد كنت دائما ناصحا ومرشدا، بل أردت من خلال "أجراس المستقبل" أن تلعب دورا أكثر فاعلية، لكنهم منعوك!! فلم تتخلَّ عن دورك فى التنبيه والنصح والإنصاف.. فأنت تستحق منا كل التقدير والإجلال وقليل من العتب على بعض مما يـُـفهم منه خدشا وتجريحا لإسلوبنا وسبلنا مما قد يحمله غيرك على غير محمله!
ان سؤالك: "ماذا جنينا من سجن هؤلاء؟" يمثل درسا فى "الحكمة" (سوفيا) بكل مشاربها ومصادرها النقلية والعقلية.. الحكمة التى تحول النص الديني إلى معدن خام متجدد المعاني والمقاصد حسب الزمان والمكان، لا كنص جامد يعاد اجتراره باستمرار، يجعلنا نسير فى اتجاه الماضي، بل نتقدم إلى الوراء!! إن الحكمة (وهي ضالة المؤمن) تمكننا من فهم ديننا الحنيف ونصوصه الطاهرة – كمعين لا ينضب- يفهمها أهل كل عصر بما أوتوا من وسائل للتأويل والتفسير والتبصر والتدبر والعبرة: "فاعتبروا يا أولي الأبصار" (صدق الحق جل جلاله).
لمتكتب، أخي، مخاطبا الرعاة حفظة "المتون" الذين اكتفوا -فى أحسن الأحوال- بحفظ النص القرآني، وهو أمر غاية فى الأهمية، لكن فهمه وتدبره موصِل إلى المقاصد السامية والقيم الخالدة والمثل العليا التي تعبر عنها سنة خير الخلق، حتى لا نكون مثل "الحمار يحمل أسفارا"، وتغلب العادات والتقاليد وفقه النخاسة على السراج المنير، كما هو حال مجتمعنا "المسلم".
إنك تخاطب ذوي النـُّـهى، وهم قلة قليلة (... إن الكرام قليل)..لكن واجبك الديني، وخلقك الرفيع، واستشعارك للمستقبل، فرض عليك التنبيه إلى سير"نا" فى اتجاه المجهول الذى تقودنا إليه القلوب المريضة بالغمى.. تلك القلوب التى أوقعت بإخوتنا فى ليبيا والعراق... إن دور الأستاذ وأنداده وتلامذته – مثلي – هو أن "يشتعل"، بل يضيء ويحترق ليجد الناس الضوء، ويعودون إلى جادتهم !
لقد كتب أحدهم تعليقا فخريا على مقالك الرفيع. جاء فيه الكثير من الكذب والمغالطات التي لا يمكن إلا أن نبين زيفها، خاصة أنها لسان حال جل المجتمع المتعفن وقادة رأيه. فقد ذكر السيد بجلاء -عاتبا عليك- بأن عادة الزوايا (!) عدم "الصدع بكلمة الحق"، وأنه كان عليك -أخي الأستاذ- أن تقدم مآخذك على العدالة (القضاء البيظاني) بشكل سري إلى القضاة لكي يحافظ القضاء على هيبته.. سبحان الله!!! حتى ولو كانت تلك الهيبة زائفة. قدم الرجل هنا درسا من ثقافة "إكيدي" مثل فتوى "مميي" و توصيات علماء "هيداله" بأن لا تنشر "فتواهم" بإلغاء الرق على التراب الموريتاني، بل هي فقط للإستهلاك الخارجي والمتاجرة مع الغرب!! (الحق لا يقال والكذب حرام).
لقد قال النذل ولد أهل داوود فى مداخلة له على شاشة تلفزيون النظام، إن الحقائق الدينية البعيدة لا يجب البوح بها للعامة! لأنها غير مؤتمنة عليها، فهو بهذا أباح الكذب! ولم تخرج المسيرات ولا حتى التنديدات. و قد رد عليه الأستاذ المحترم محمد لمين الشاه مذكرا بانسجام قوله مع أفعال أحبار اليهود .. وزادت ملاحظته من وضوح وخطر ما ذهب إليه "الوازر".
ثم إن السيد السقيم فى رده على مقالك -أخي- زعـَـمَ أننا شاركنا فى قافلة مع "أناس يدعون لانفصال الجنوب" و أن النقطة التي "توقفنا عندها" كانت بالنسبة لنا المكان الذى أردناه عاصمة للجنوب... أعرف أن هذا لا يستحق الرد لتفاهته، لأنها "أفكار" لفـّـقها المسكين بخياله الضيق وفكره الجامد.. ألا يعرف هذا أنه إذا وقع انفصال للجنوب فإن الخليل سيكون جنوبيا بحكم الجغرافيا، وأنه كشيخ تربية لا يعرف الحدود ولا يفهم الأناوات الضيقة المريضة، وأن هذا هو تماما ما يجمعنا به وبأمثاله؟.
فنحن (ومن نحن؟) أكثر حرصا على الوحدة الترابية وإزالة الحدود بين الجهات والأعراق و الفئات من غيرنا. وإذا سلمنا جدلا بأننا (في إيرا) رافقنا انفصاليين، فلماذا نسجن نحن ويتركون !؟
لقد ختم المعتل مقاله بالقول ان الأستاذ الخليل، فى نصه المذكور، لم يقدم "البديل" عن سجن هؤلاء ؟ فى حين أن البديل واضح وضوح الشمس من خلال العنوان.. لكن ذلك يحتاج إلى الإعتبار (النظر بالعقل)، أم أن السيد يلمح إلى أن البديل، من منظوره هو ومن ينحو نحوه، هو أن تقوم الدولة بإبادة لحراطين كما فعلت بمواطنيها الهالبولاريين حين طالبوا بحقهم في العيش الكريم فى وطنهم!.. هكذا يجب على لحراطين -حسب هذا الطرح- أن يتقبلوا بصدر رحب ما بهم من بؤس ودونية وغبن حفاظا على "اللحمة"!! وإلا فهم أعداء الوطن، يعملون لصالح الغرب، وأعداء للإسلام !! وما جزاؤهم إذن إلا "إينال" و"العزلات" و"سوريمالى"...
قلب آخر مريض يرد عليك -خليلي- بأنهم جنوا الكثير، ويذكر من ذلك توقيف بيرام لعدة أشهر... دون أن يذكر الثمن الذي نبهتهم إليه فى مقالك... فبدل البحث عن الدواء المناسب لاجتثاث المرض -وهذا هو البديل- يكتفي الجاهل بالمهدئات..... نحن في سجننا جنينا الكثير الكثير... لكننا نأسف كل الأسف على أن وطننا الغالي لم يجن شيئا إيجابيا، وقد يكون الأسوأ أقرب إذا واصل الجنرال الأرعن في عنجهيته وكبريائه وجهله...
أما عتبنا -أخي الأستاذ- فهو أننا نربأ بك أن تجد نفسك مجبرا على تطهير نفسك من أسلوبنا وطرقنا في النضال ضد مجتمع ظلمنا فى الماضي ويواصل ظلمنا فى الحاضر.. لا نتصور أن مثقفا في قامتك يحتاج إلى محاباة المجتمع لكى ينال وده على حساب المظلومين! فنحن أيضا لا نتفق معك فى أسلوبك هذا.. !
إن المحاظر والكتاتيب لم تكن يوما مرتعا للحق، وليست دليلا على ما يذهب إليه أغلب الموريتانيين من تعلق بالدين الإسلامي، و لا يعتبر إرسال بيرام لأبنائه إلى محظرة ما شيئا جديدا، و لا يعتبر رجوعا إلى الحق، لأنه لم يغادره أصلا.. فقبل أن يـُقطع راتب الرئيس بيرام كان في بيته دوما مدرسا للقرآن وعلومه، ويعود إليه الفضل في فتح محظرة قائمة فى جدر المحكن... فنحن لا نقبل منك، أخي، محاباة المجتمع والتضرع إليه على حسابنا وتقديم نقد لاذع لأساليبنا قــُـربانا لمجتمع درج على البشاعة. فالمثقف عليه أن يتكلم ويعبر عن قناعته بكل موضوعية، وإذا كان يهمه ما سيقول عنه المجتمع فإنه بذلك، وعلى حساب مبادئه، سيكون مجرد لاعب محترف لكرة القدم، يحسن المراوغة، ليس إلا.
و السلام عليك، أخي!