لماذا تمنع الدول الإسلامية الغــنـية زكاة أموالها ؟

اثنين, 2015-10-12 13:04

في مساء الأحد، 6 شتنبر 2015، كنت غربي سوق المغـرب في العاصمة انواكشوط، عندما دنت من نافذة سيارتي طفلة في حدود العاشرة من العمر وخاطبتني طالبة أن أساعد الإخوة السوريين.

 ابنة السبيل فيما يبدو شامية دفعها طلب الأمن إلى منطقة فقيرة في أقصى المغرب العربي، كانت ثيابها متسخة كثياب أغلب أطفال الحي بينما كانت المسكنة بادية في محياها بعد أن أثرت لفحات الشمس في صفحة وجهها البريء.. أحسست بالشفقة وتداعت لذهني خواطر محزنة: تخيلت الرصافي منشدا: "لقيتها ليتني ما كنت ألقاها*** تمشي وقد أثقل الإملاق ممشاها".. تمثلت صورة الجندي التركي، الذي رأينا في ذات الأسبوع، وهو يحمل جثة طفل عربي ذي قميص أحمر قذفته المياه على الشاطئ كما قذفت جثة أمه وشقيقه.. وتدبرت ما نسب للمستشارة الألمانية إنجيلا ميركل من قول مؤثر: "غدا سنخبر أطفالنا أن اللاجئين السوريين هربوا من بلادهم إلى بلادنا، وكانت "مكة بلاد المسلمين" أقرب إليهم..".. ومع أني لست في العير ولا في النفير إلا أنني شعرت بمسؤولية ما واستغرقت في التفكير في مأساة لاجئي وفقراء المسلمين أثناء إجازتي في البادية.. على الرغم من كون المطر انهمر بعد طول انتظار إلا أن الجوع والمرض منعا الكثيرين من الإستمتاع بجمال الطبيعة عندما تلبس الأرض حلة خضراء في موسم لا يطول، فسرعان ما تزول نضارة العشب في هذه الربوع ولكن وكما يقول محمد ولد بدي ولد مأمون:

نضارة العشب إن زالت وإن نضبت *** فلا يجوز هنا أن تنضب القيم

 

أبناء السبيل السوريون المنكوبون يتقاطرون إلى بلاد الفرنجة ويطلقون النداءات ولا يجوز تجاهل نداء الإستغاثة لأسباب عديدة.. ولطبيعة عملي في الحقوق والمطالبة بها فقد خامرتني فكرة تقديم مساعدة من جنس العمل علها تكون زكاة وصلة رحم: لا مراء في أن لأبناء السبل والفقراء حق معلوم في أموال المسلمين، ولتوسيع إدراك حدود الحق طالعت أحكام الزكاة في الشريعة ولم أكن ضليعا فيها ولكنني سرعان ما خلصت إلى أن أغنياء المسلمين مدينون بأموال المحتاجين من فقراء وأبناء سبل وغارمين، ولطالما ظل الحيف سببا للدمار وقانا الله.. حاجة الفقراء الماسة للزكاة وضرورة الحفاظ على النظام توجب مطالبة أغنياء المسلمين بالغرم.. ولا أعني الأشخاص الطبيعيين فقط وإنما الإعتباريين أيضا بما فيهم الدول ومؤسساتها وجمعياتها وشركاتها ومصارفها ناهيك عن الأموال الخصوصية، التي يعدها البعض خطأ، وعاء الزكاة الأوحد.. "أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم".. فلماذا تستبعد أموال المسلمين الوافرة من "ضريبة الرحمن"؟

 

التهرب الزكوي ترب التهرب الضريبي الذي دأب عليه الأغنياء في كل البلدان وأنبأ عنه الخالق في قوله تعالى: {.. وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ.. } الآية 128 من سورة النساء، ولاحظه الدكتور جيم يونغ كيم، رئيس مجموعة البنك الدولي عندما قال: ".. في الكثير من البلدان، يتهرَّب الأغنياء من دفع حصتهم العادلة. وبعض الشركات تستخدم إستراتيجيات متقنة لكيلا تدفع الضرائب في البلدان التي تعمل فيها، وهو شكل من أشكال الفساد الذي يضر الفقراء." 

 

ولكن توجد بيد المسلمين وسائل لردع مانعي الزكاة لا تتوفر لدى أجهزة محاربة الفساد التقليدية منها وسائل مادية وأخرى معنوية كمقاطعة المجتمع لمن لا يؤدون الفريضة والتشهير به وضغوط أخرى كالإمتناع عن حضور جنازته مثلا.. ويمكن للعاملين على الزكاة تجربة وسائل أخرى..

 

وفيما إذا أقرت أمة الإسلام استراتيجية مدروسة للزكاة فمن المنتظر أن يتقبل الكثيرون حكم الله وأن يوجد عاملون للدفاع عن الفقراء وأبناء السبل في كل مرافق المسلمين، لن يكون عاملو الزكاة متطوعين كنظرائهم الحقوقيين لأن الله قرر لهم نصيبا في الزكاة.. من الخليق بنا أن نتواصى بالحق والمرحمة وأن نتعاون على قهر الشح باقتطاع الحق المعلوم للسائل والمحروم.. المؤكد أنه إذا تبنى الحكام المبادرة سهل الأمر ليسر اتباع إجراءات تخول تكييف الطقس العربي الحار بإطلاق حنفيات البذل والعطاء في جوانبه.. وإن هم توانوا فبمتناول المجتمع المسلم، بل من واجبه، أن يجرب وسائل متحضرة لانتزاع الحقوق ومن دواعي نجاح السعي أن تكون الوسائل نابعة من الدين والقيم علها تسهم في الحد من العنف الذي يهز كيان الشعوب وتتوسع رقعته في منطقتنا.. سيكون من الصعب مواجهة تيار إسلامي مدني يتبنى الدفاع عن حقوق فقراء المسلمين في الزكاة على غرار جمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان عبر العالم؟

 

واعتبارا لكون أغلب الممتنعين عن أداء الزكاة من ذوي القرابة والرحم ولا يعدم سوادهم المروءة ارتأيت أن أجادلهم بالتي هي أحسن لحملهم على الإستجابة الطوعية لأوامر الله تعالى.. لذلك ستتضمن هذه الرسالة خليطا من التعليم والإرشاد والموعظة واستنهاض المروءة.

 

لسلطان المال قوة تجعله أمضى وأقطع من الأسنة ولذلك باتت الزكاة السلاح الأنجع لكسب رهان تنمية المسلمين والدعوة إلى دين الله.. أغلب المسلمين يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويصلي، بينما يصوم ويحج أغلب المستطيعين ولكن أغلب الأغنياء لا يزكون كما ينبغي ولهذا تكثر الفاقة والفقر.. لا بأس في أن ينشأ حلف زكاة يتبنى مقاطعة من يمنعونها.

 

لا أرى أن نطالب الدول النفطية المسلمة بالتنازل عن النسبة المستحقة في الركاز (من معادن ونفط) وهي الخمس (20 %) لما يتطلبه الإستخراج من مصاريف من جهة ولحكمة التدرج المتبعة في الشريعة من جهة أخرى ولربما ركنت النفوس للخمس طواعية مع الزمن.. وبالمقابل لا يجوز أن يمانع أغنياء المسلمين في دفع ربع عشر كنوزهم (2.5 %) لذويه وذويهم من المستحقين.. الكثير من أموال المسلمين محبوس في محافظ استثمارية وصناديق استثمار على شكل عملات صعبة وسندات وأسهم تتلاعب بها حركة الأسواق صعودا وهبوطا.. أيها المسلمون أنفقوا من أموالكم قبل أن تجرفها البورصات ويضيع الأجر وتصبحون متسكعين في عرصات القيامة بلا مأوى ولا زاد.. خير لكم أن تدخروا دولارات قليلة من كسبكم تهوي في بطون الجياع وأن تشيدوا جدرانا يحتمي بها اللاجئون بدل أن تكنزوا معادن صلبة يسهل صهرها في شكل مقامع تكتوون بها يوم لا ينفع مال ولا بنون.

 

هل يعلم أثرياء المسلمين أن "بلقاء ميركل" تأتي مصاحبة لحملة تندر على إسراف العرب وبذخ أثريائهم تراجعها المجلات والمواقع الأجنبية مما ألفت الإنتباه إليه دون توسع ملتمسا من أولياء الأمور التحقيق حوله والعمل على تلافيه.

 

يتعين أن يتذكر كل المسلمين ما جاء به محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم وقرر الخالق جل وعلا أن يكون أوسط (ثالث) الأركان الخمسة التي يقوم عليها دين الإسلام.. الزكاة قرينة الصلاة وقد توعد أبو بكر رضي الله عنه، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال من فرق بينهما وأنجز وعده.. الزكاة التي لا يعـدو مقدارها في النقود والعروض ربع العشر (2.5 %) كفيلة بتهيئة ظروف حياة كريمة لأبناء السبل الذين يواجهون الموت في مغامرة الهجرة إلى الشمال، تارة تحت الموج وتارة اختناقا عندما توصد أبواب الشاحنات المثلجة التي لا تسمح القوانين الأوروبية بأن تنقل الحيوانات الحية.. هل فكر المسلمون في أن عدم إغاثة اللاجئين يشكل تنكرا لمبادئ الدين الذي أمر بتأليف قلوب الخارجين عن الملة فتنكر المسلمون لحقوق الأقربين من ذوي الرحم من الفقراء والمساكين وأبناء السبل.. اقتصاد اليونان يمر بأزمة اقتصادية خانقة إلا أن الدولة، بفضل مساعدات مجتمعها متماسكة لا تعاني الجوع ولا العري وقد رأينا مواطنيها في أثواب زاهية يسعفون من لجأ إليها من أبناء العرب.. "يجود علينا الخيرون بمالهم *** ونحن بمال الخيرين نجود".. يتعين على أولياء أمور المسلمين التأمل في مدلول الآية الكريمة: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} الآية 22 من سورة محمد.. وفي الحديث الذي معناه تعلق الرحم بالعرش مستعيذة من القطيعة وعدها الرحمن بوصل من وصلها وقطع من قطعها.. أداء الزكاة كفيل بسد رمق فقراء المسلمين وإيوائهم وتأليف القلوب هنا وهناك.. الزكاة كفيلة بجلب الأجر للمتصدقين وصون أعراضهم دون أن تنال من ممتلكاتهم إذ، يجب علينا كمسلمين، أن نؤمن بأنها تسهم في نماء الأموال ومباركتها علاوة على ما تجلبه من سكينة لنفس المتصدق.. رابح من يتصدق بربع العشر ويتصرف في تسعة أعشار وفي ثلاثة أرباع العشر المتبقي من مال الله الذي منحه منحة مؤقتة، سرعان ما تزول، ما دامت آخر آجالها رجوع المرء إلى الله فردا وقد ترك ما خوله وراء ظهره.. خاصة وأننا ألفنا تشييع الأغنياء ودفنهم في الثرى كما يدفن الفقراء وأننا نقرأ في كتاب الله: {.. وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ*} الآيتين 34 و35 من سورة التوبة.

 

المفارقة أن بعض فقهاء المسلمين يبدو مسؤولا عـن حرمان الفقراء والغارمين عندما أفتى حديثا بعدم وجوب زكاة المال العام.. خلافا لرأي الإمام محمد بن الحسن الشيباني المتوفى سنة 189 للهجرة تلميذ الإمامين أبي حنيفة ومالك وشيخ الإمام الشافعي الذي رأى وجوب زكاة الأموال العامة في زمن كانت الدولة الإسلامية واحدة ولم تكن لها أموال وكنوز مكدسة في البنوك وصناديق الإستثمار.. الدولة الإسلامية الجامعة لم تعد موجودة إلا أن دولا إسلامية كثيرة رأت النور.. فهل يجوز بعد أن تعددت الدول الإسلامية وشملتها سنة الله في تفاوت الأرزاق، فمنها من يعد ضمن أغنياء العالم بينما لا يجد البعض ما ينفق، هل يجوز والحالة هذه أن نشكك في وجوب دفع زكاة أموال الدول الإسلامية الغنية إلى الدول الإسلامية الفقيرة الغارمة؟ وأن يتخلى المسلمون عن مسؤولياتهم أمام أبنائهم الذين تتخطفهم السبل وأن نتحمل فوق ذلك تعيير الآخرين وغمزهم في مروءتنا وديننا وأن نذر أبناء حاتم الطائي يتهافتون على موائد العجم ؟

 

يتعين على أغنياء المسلمين أن يدركوا بأن تبرعهم للفقراء غير وارد وغير مقبول ما لم يؤدوا زكاة أموالهم إذ الثابت أنه لا يتنفل من عليه القضاء ومن المستهجن أن بعض الدول الإسلامية الغنية أصدرت قوانين تخولها تحصيل الزكاة وأصدرت تشريعا فرعيا بصرف مواردها في مصالح الدولة المختلفة (الدفاع، التعليم، الصحة.. إلخ) دون اعتبار لكتاب الله وسنة رسوله من كون الخالق خصص الزكاة للثمانية المذكورة في الآية 60 من سورة التوبة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عن زِيَادَ بْنَ الْحَارِثِ الصُّدَائِيَّ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعْتُهُ فَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلا قَالَ فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ أَعْطِنِي مِنْ الصَّدَقَةِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِيٍّ وَلا غَيْرِهِ فِي الصَّدَقَاتِ حَتَّى حَكَمَ فِيهَا هُوَ فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ فَإِنْ كُنْتَ مِنْ تِلْكَ الأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُكَ حَقَّكَ" رواه أبو داوود.

 

ولتسهيل ضبط مصارف الزكاة الثمانية، ضمنت الحرف الأول من كل مصرف في عبارة: "غراس مفعم" بالترتيب: غارمون، رقاب، ابن السبيل، سبيل الله، مساكين، فقراء، عاملون ومؤلفون.

 

ويتعين على قومنا، أن يتوبوا إلى الله ويبادروا بمراجعة تشريعهم ليتلاءم مع مقتضيات الشريعة ولا بأس في إرجاع أموال الفقراء لمستحقيها تجسيدا لكون الزكاة هبة ربانية مختلفة عن الجبايات الوضعية التي تقرها الدول.

 

وقد وجدت من الوارد في هذا السياق أن أعرض في هذه المعالجة: وجوب الزكاة في الإسلام (1) وأدلة الرأي الفقهي بعدم وجوب زكاة الأموال العامة مقرونة بالرد عليها (2) ومن ثم أثبت رأي الإمام محمد بن الحسن الشيباني في وجوب زكاة الأموال العامة المستثمرة (3) وأقترح قواعد عملية لتفعيل فريضة الزكاة بدعــوة أولياء أمور المسلمين إلى التقيد بأوامر الله تعالى وإحياء قيم المروءة (إنسانية العرب) التي تستحق الإهتمام شأنها في ذلك شأن القانون الإنساني (4) وأستشرف أخيرا الآفاق المستقبلية للعمل الزكوي (5).

1.

الزكاة ركن من أركان الإسلام الخمسة وهي واجبة بنص الكتاب والسنة وقد وردت مقرونة بالصلاة في ثمانية وعشرين موضعا من كتاب الله ومما ورد فيها قوله تعالى: {وأقيموا الصَّلاةَ وآتوا الزَّكاة وارْكَعوا مع الراكعِين} - الآية 43 من سورة البقرة، {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} - الآية 103 من سورة التوبة. وفي الحديث الصحيح "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا رضي الله عنه إلى اليمن فقال ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم" (الحديث رقم 1313 في صحيح البخاري). ومن أنكر وجوب الزكاة عد خارجا عن الإسلام ومن أقر بوجوبها وامتنع عن أدائها من المسلمين قوتل حتى تستخلص منه.

2.

رأى بعض الفقهاء المتأخرين عدم وجوب زكاة المال العام واستند على دليلين أولهما أن المال العام ليس له مالك معين ولا قدرة لأفراد الناس على التصرف فيه ولا حيازة لهم عليه وثانيهما أن مصرفه منفعة عـموم المسلمين التي تقوم عليها الدولة.

 

وفي الدليلين ضعف إذ تتضمن أغلب الدساتير والقوانين المعاصرة الرد على الدليل الأول فالدولة شخص اعتباري له ثروة تعد ملكا للأمة يحوزها ويتصرف فيها من يمثلونها ولا يبدو من الوجيه السكوت عن صرف الأموال في مختلف وجوه الإنفاق وإثارة الدفع بعدم الصفة عندما يتعلق الأمر بالزكاة فذلك تشجيع وتجسيد لشح الأنفس.. فما دام وصي اليتامى مأمورا، شرعا، بزكاة أموالهم فكيف لا يكون ولي الأمر - المتصرف في أموال أغنياء المسلمين – مسؤولا عن زكاتها!

 

أما فيما يتعلق بالدليل الثاني: كون مصرف المال العام منفعة عموم المسلمين التي تقوم عليها الدولة، فيبدو ضعيفا لسببين أولهما أنه لا يوجد اليوم بيت مال موحد يقوم على منفعة عموم المسلمين لزوال الدولة الإسلامية الجامعة (المعرفة بالألف واللام) فعدد الدول الإسلامية يفوق الخمسين دولة يتفرق بينها أغلب المسلمين دون أن تتكفل أي منها بكافة متطلبات مواطنيها بينما تعتبر كل دولة غير مواطنيها أجانب لا تسمح بدخولهم إقليمها إلا بشروط سواء أكانوا مسلمين أم لا وثانيهما أن الدولة ومصالح المنفعة العامة ليستا مصرفين للزكاة التي حصر الخالق مصارفها في الثمانية المذكورة أعلاه "غراس مفعم".. كما أورد الإمام الشيباني في مقاربته الوجيهة.

3.

خلافا للرأي أعلاه ذهب الإمام محمد بن الحسن الشيباني - المتوفى سنة 189 للهجرة، تلميذ الإمامين أبي حنيفة ومالك وشيخ الإمام الشافعي - إلى وجوب الزكاة في الأموال العامة التي تسهم بها الدولة في مشاريع ذات ريع حيث قال: "فإن اشترى بمال الخراج غنما سائمة للتجارة وحال عليها الحول، فعليه فيه الزكاة.. واستدل بثلاثة أدلة، أولها: أن مصرف الخراج الذي تجب فيه الزكاة غير مصرف الزكاة، فمصرف الخراج عمارة الدين وصلاح المسلمين، وهو رزق الولاة والقضاة وأهل الفتاوى من العلماء والمقاتلة ورصف الطرق وعمارة المساجد والرباطات والقناطر والجسور وسد الثغور وإصلاح الأنهار التي لا ملك لأحد فيها وأما مصرف الزكاة فهو الفقراء والمساكين والغارمين وابن السبيل وفي سبيل الله وغير ذلك. وثانيها: أن سبب وجوب الزكاة المال النامي، فإذا اتخذ المال للنماء والإستثمار تعلقت الزكاة به، ولا تأثير لكونه عاما أو خاصا. وثالثها: الإستئناس بالحديث الذي يوجب الزكاة في أموال الأيتام سواء استثمرت أو لم تستثمر بدليل قوله: "ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة" فالحديث يطلب من الأوصياء إخراج الزكاة من أموال الأيتام، فيجب على الإمام أن يخرج الزكاة من أموال بيت المال." انتهى (الدكتور محمد ربيع صباهي، زكاة الأموال العامة المستثمرة في القطاع العام، مجلة جامعة دمشق للعلوم الإقتصادية والقانونية، المجلد 25، العدد الثاني- 2009).

 

وربما يكون سبب رأي الشيباني في قصر الوجوب على الأموال المخصصة للإستثمار والمتحصلة من الجباية راجعا إلى "معطيات المعادلة الزمانية" فلقد عاصر قاضي قضاة الرشيد - الذي يعد صاحب البصمات الأولى في القانون الدولي - الدولة الإسلامية الجامعة التي تقوم على شؤون جميع المسلمين ولم يعرف مفهوم الدول الضيقة المحتكرة التي يكون الولاء لها بالمواطنة لا بالدين.. فمن الوارد بعد أن تعددت الدول الإسلامية وكنز بعضها أموالا طائلة، التطلع إلى أن تدفع الدول الإسلامية الغنية - التي يبلغ مالها نصابا يمكن الإجتهاد في تحديده باعتبار متوسط دخل الفرد مثلا - زكاة أموالها للدول الإسلامية الفقيرة الغارمة كي لا يكون المال دولة بين الأغنياء وكي يكون ثمة حد أدنى من التكافل بين المسلمين ومساعدة الغير لأن الشريعة تأمر حتى بصلة غير المسلمين ما دامت تقرر لهم نصيبا معلوما في الزكاة.

4.

من الخليق بالمسلمين - في زمن إحكام إغلاق البيوت والحدود وانتشار الفقر والعوز في كياناتهم - التعاون على تفعيل الزكاة التي تقع مسؤولية تحصيلها وصرفها أولا على أولي الأمر فإن تقاصروا عن ذلك تعينت على عامة المسلمين باعتبارها أحد أركان الدين فقد رفع الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه السيف في وجه من منعها وقال: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال". ولعل أنجع خطوة هي أن تطيب نفوس أولياء أمور الدول الإسلامية بدفع الحق من أموالهم الخاصة ومن الأموال العامة التي يتصرفون فيها وأن يبادروا إلى إبرام عهد خاص بالزكاة.. وإذا افترضنا أن زكاة المال العام تحتمل الوجوب وعدمه فإنني أدعو ذوي المروءة لوقفة مع ناتج كلا الإحتمالين: فإذا كانت الزكاة واجبة فيكون منعها معصية لأوامر الله تعالى وربما خروجا عن الملة لعدم التقيد بالركن اللازم، أما إذا افترضنا عدم الوجوب فإن بذل المال يدخل في نطاق أعمال البر المحمودة التي تحتسب لصاحبها ويثاب عليها وفي هذا المفترق يكون من مسؤولية المسلم أن يختار سلوك أحد السبيلين قبل أن يتخطفه الموت.

 

عندما ظهرت النقود الورقية وشاع التعامل بها ذهب بعض الفقهاء إلى عدم وجوب زكاتها واستند لكونها لا تصنف ضمن النقدين ولا تدخل في أصول الزكاة بينما ذهب آخرون إلى وجوب زكاتها مطلقا لأن من يملكها يمكن أن يشتري بها الذهب والفضة وسائر الأصناف التي تجب فيها الزكاة ولأن عدم وجوب زكاة وسائل الأداء العصرية يحرم الفقراء.. وقد حدثني الفقيه محمد عبد الرحمن ولد محمد مسعود أن باب ولد ابريد الليل رحمه الله (وكان أحد أغنياء موريتانيا) لما سمع نقاش المذهبين علق قائلا: سأدفع زكاتها لأني أفضل أن أجيب عن سؤال الملكين لم دفعتها عن الإجابة على السؤال لم منعتها.

 

ومن أجل سياسة زكوية ناجحة يتعين التصريح العلني بالإلتزام بها وبدفعها لأن الإعلان يمكن من رقابة مدى التقيد بالواجب ويشجع الكثيرين على الأداء كما أن نشر المعلومات يتيح التشهير بمن يمتنع عن الوفاء بالشعيرة والشريعة عندما أجازت قتال الممتنع عن أداء الزكاة رفعت الحصانة عن عرضه على الأقل في حدود انتهاك حرمات الله، وينسب لابن العربي القول: " .. فأما إذا كان متظاهراً بالفاحشة مجاهراً، فإني أحب مكاشفته والتبريج به لينزجر هو وغيره".

 

ومن الوارد أن يمحص المسلمون تكييف المركز القانوني للدولة في الزكاة فهي وكيل من جهة ويمكن أن تكون دافعا أو مصرفا بالنيابة عن مواطنيها (لا أصالة عن نفسها) من جهة أخرى مع ما يترتب على ذلك من آثار يبدو أنها غير جلية لدرجة أنها ربما التبست على كبار العلماء المعاصرين ممن لا باع لهم في القانون والإقتصاد.

من الملح أن تبادر أمة الإسلام إلى وضع خارطة طريق لتفعيل الزكاة على مختلف المستويات:

 

أ. على مستوى العالم الإسلامي: إبرام معاهدة يتم بموجبها إنشاء ركن للزكاة، على غـرار برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (undp) على أن يقسم إيراد الزكاة إلى ثمانية أجزاء: الثمن لتسيير الركن (العامل عليها) الذي يتكفل بتحصيلها وقسمتها، الربع للفقراء والمساكين، الثمن للاجئين (أبناء السبل)، الثمن للعمل الخيري خارج بلاد الإسلام (تأليفا للقلوب)، الثمن لمحاربة الإسترقاق وآثاره (في الرقاب)، الثمن لسداد أو تخفيف ديون (الغارمين) والثمن لإقامة الدين (الجهاد في سبيل الله). ولتيسير الحفظ ضبطت المصارف في عبارة "غراس رابح" كما تقدم.. وبعد الشروع في تنفيذ الأوامر الربانية ومعاينة آثارها يمكن لذوي الإستنباط تقريب وجهات نظرهم للإجماع على مراجعة مفاتيح التوزيع بشطب ما زال سببه من مصارف وإضافته لعنوان آخر باجتهاد معلل ومؤقت (يتم تجديده دوريا) ويمكن من تحقيق أهداف الزكاة الدينية والتنموية في محاربة الفقر ومراعاة مصلحة الدين على هدي عمر ابن الخطاب رضي الله عنه.

 

ويتعين أن يعمل ركن الزكاة بالتنسيق والتعاون مع رابطة العالم الإسلامي ومع هيئات الأمم المتحدة المتخصصة وأن يشرف على تمويل تقارير ودراسات وبحوث حصيفة عن الزكاة ومكانتها في الإقتصاد الإسلامي وأثرها في السلم الدولي، بحوث تصب في منفعة المسلمين والمسالمين في كل مكان. ومن الجائز النظر في إقامة هيئات تحكيمية وقضائية تبت في النزاعات ذات الصلة بالزكاة.

 

ب. على مستوى كل دولة إسلامية: إنشاء وزارة أو هيئة تتبع مباشرة للحاكم وتعمل على تحصيل الزكاة بالتنسيق مع الركن وصرف الصدقات طبقا للضوابط المقررة شرعا مع التعفف عن استخدامها في شؤون الدولة وتجنب صرف زكاة مال الدولة العام لمواطنيها تطبيقا لقاعدة عدم جواز دفع الغني زكاته لمن تجب عليه نفقته، لمظنة أن يكون في ذلك سعي للتخفف من أعباء البذل، على أن تعطى، في المقابل، أولوية زكاة الخصوصيين لفقراء البلد عملا بقاعدة كراهة نقلها إن لم يوجد من هو أحوج في بلاد إسلامية أخرى.

 

ويتعين أن يجتهد العاملون لوضع معايير تكفل تحقيق المقاصد الشرعية بتوسيع الوعاء الزكوي لمصلحة المحتاجين عن طريق تأويل الأحكام باتباع ضوابط سخية كاعتماد التفسير الأكثر فائدة للطرف الضعيف الذي تسعى الشريعة إلى مواساته ولن تتحقق الأهداف إلا بإدراك وجوب الوقوف بحزم ضد الشح الملازم للنفس البشرية.

 

ولا غنى عن إسهام المجتمع المسلم الذي يتعين أن يشجع الحكام على زكاة أموال المسلمين ويدفع لتهيئة الظروف الملائمة للإفاضة على المحتاجين. فما هي فائدة الأموال المكدسة، إذا كان بعض الإخوة في الرحم والدين يموتون تائهين دون أن يجدوا ما يسد رمقهم؟

وعلاوة على تعطيل زكاة المال العام مطلقا، تظهر التقارير أن أداء الزكاة، حتى فيما عداه، لا يزال محدودا في جل بلاد الإسلام إذ يقدر أن نسبة تحصيلها في المملكة العربية السعودية لا تزال دون العشر ومن الجائز التخمين بأن النسبة تظل دون ذلك في بلاد الإسلام الأخرى ولذلك يتعين على أولياء أمور المسلمين إعلان حالة الإستنفار وإطلاق حملة بذل شاملة يدشنونها بزكاة أموال دولهم.. لا قائل بإعفاء ذوي الثراء وقصر الزكاة على أصحاب الدكاكين الصغيرة والمتوسطة وإن كان الأمر كذلك فما حكمته؟

 

لقد كانت الكلمة من وسائل ترقية الشعوب فلقد أسهمت رواية فولتير في عطف المجتمع الغربي على البؤساء ولربما كان الجاحظ مسؤولا عن رفع معنويات البخلاء.. لذلك فمن واجب العرب العمل على إحياء شيم الجود والمروءة والسخاء.

 

كان عرض العرب وافرا ومروءتهم مشهودة ولذلك فمن المناسب أن يعمل أحفادهم المعاصرون على إحياء المجد.. ينبغي أن تدرس المروءة للأبناء وأن نسمع دروسا حية في البذل والعطاء ولا غرو أن يكون الأغنياء أفضل أساتذة السخاء.. يتعين أن نتعاون لتغيير النظرة الحالية لمجتمعنا وأن نوجه أموالنا إلى وجوه الخير بدل تبذيرها أو كنزها بلا طائل وأن نستحضر أنها، والله، لن تدوم.

 

وإذا تأكدت صحة إعلان الأمير الوليد بن طلال التبرع بكافة أمواله للعمل الخيري فإن ذلك يشكل سنة حسنة تدرجه على صدارة قائمة الأسخياء العرب لأنه كان متربعا على رأس قائمة أثريائهم وتنازل الشخص عن كل أمواله الوافرة يشكل تضحية كبرى وإن كنت أنصحه، بأن يبادر إلى تخصيص ربع عشر أمواله للزكاة وتوزيعه علنا بصورة فورية على المصاريف المبينة مع مراعاة مدى استعجال وحاجة كل فئة ومن المفيد أن يعمل على المساهمة في تشجيع إعلامي للسخاء بتخصيص قناة للزكاة مثلا.

5.

وقد حاصرت إجراءات حملة "تجفيف منابع الإرهاب" العمل الخيري الإسلامي غير الرسمي وهلك جراءها الكثير من فقراء المسلمين ممن لا يجد سبيلا بينما وجد المستهدفون موارد أخرى وتوسعت دائرة الحرب.. لذلك فمن واجب الدول الإسلامية أن توفر الوسائل لتأهيل العمل الخيري وإطلاقه بوتيرة جادة وديناميكية وأن تعمل على التعاون لإيصال الصدقات للمتضررين في بلاد الإسلام التي يتعايش فيها الأثرياء والفقراء.

 

وعندما تشيع الزكاة في المجتمع المسلم سيتراجع العنف وأتوقع أن تسعف التجربة المجتمع الدولي الباحث عن أساليب لتوزيع الثروة دوريا بين سكان الأرض لأن إيواء الفقراء وتمكينهم من وسائل لشراء حاجاتهم يسهم في حل مشاكل دولية فهو يحد من تدفق المهاجرين الذين يضيق بهم العالم ذرعا وينعش الإقتصاد الدولي الراكد.. وكما يتدرج غير المسلمين في سبيل التنازل عن الفائدة وبعد أن غدت بريطانيا رائدة في اعتماد التمويل الإسلامي لذلك لا يستبعد أن تقتدي الدول المتمدنة بالمسلمين باقتطاع نسبة سنوية معلومة من مواردها لمن لا يجدون.

 

وجملة القول أنه بالنظر لتعذر نفي الفقراء إلى كوكب آخر فمن الجدير بالمسلمين وبالبشرية جمعاء أن تتعاون لتوفير الوسائل التي تكفل العيش الكريم في المشرب والمأكل والمأوى للجميع، يمكن أن نخفف معاناة الفقراء بعرض من الدنيا قليل: أن يدفع من تبلغ أموالهم النصاب المقدر بخمسة وثمانين غراما من الذهب (حدود 3145 دولار آمريكي، بحساب سعر غرام الذهب أيام تحرير هذا المقال وهو 37 دولار) نسبة 2.5 % للمحتاجين، نسبة يسيرة تجرفها الأسواق عندما تهبط المؤشرات وكلما التهب الضوء الأحمر: قف أمامك خطر.