تحية لكما من مدرستين

أربعاء, 2015-11-11 17:26
محمد عبد الله لحبيب - كاتب وإعلامي

تحية إليكما عزيزي

عايشت أخوي الكريمين سيدي أحمد ولد باب ومحمد سالم ولد أعمر  أكثر من عقد من الزمن، تقاسمنا فيه حلو  الأماني ومرها، صحبت الأخوين مرؤوسا ورئيسا، وزميلا، وصديقا، وأخا.

 

اشتركا في صفات جعلتهما محور عمل مؤسستين من أهم المؤسسات الإعلامية في البلد، وذاكرتين صحفيتين، لملفات وطنية شهدا كل تفاصيلها، وحاورا أطرافها، واستكنها كل تآويلها.

 

كنا ثلاثتنا في الأخبار سيدي أحمد والحافظ وأنا، وكان سيدي أحمد أصلبنا عودا في الصحافة وأجرأنا على الضرب في الصميم. كانت تجربته قد امتدت قبلنا في الأخبار، صاحبها، وهي بعد جنين في مخزن بضائع قرب العيادة المجمعة.

 

من الموضوع الهامشي يخلق سيدي أحمد القصة التي تهز وجدان الرأي العام، وتحرك كوامن الشر في نفوس النخبة المتحكمة في أرزاق الناس.

 

كان مقهى "دليل" وأخواته، غرفة أخبار، وكان سيدي أحمد هو كل الطاقم في موريتانيا، وكان زاده المعرفي في العمل الصحفي هو ألمعيته وطموحه الشخصي واندفاعه لتحقيق شيء.

تنقل بين المخاوف بهوية صحفي من المرصد أو من السماحة ثم السراج، وبدون هوية، وكانت الأخبار مصب إبداعاته.

خاصم في الأخبار، وصادق في الأخبار، عودي في الأخبار، وهدد في الأخبار، ونوهض في الأخبار، وحوول إغراؤه في الأخبار.. وظل هو سيدي أحمد كما عرفناه. حماس في الدفاع عما هو مقتنع به، وربما اشتط في انتصاره لآراء لا يقاسمه إياها الآخرون، لكنه كان دائما، يتكيف مع ظروف ما حوله، ويجبر الآخرين إصرارُهُ، وإبداعُهُ، على أن يتكيفوا مع ما يقتنع به سيدي أحمد أو يتعايشوا. وافقت سيدي أحمد واختلفت معه، خاصمته، صادقته، زاملته، وكان هو هو.

 

رغم التباين بين شخصينا، وطبيعة رؤيتنا للأشياء والناس، ورغم التباعد في تعاطينا مع الأقران، والفرقاء، كنت مقتنعا أن سيدي أحمد أرهف مني حسا في الإعلام، وأسرع فهما لزوايا المعالجة المثيرة، وكان تضايقي مما أحسبه تسرعا منه في الأحكام يؤوب إلى تسليم بعبقرية الصحفي التي تعتمل في جنبات فؤاده.

 

بحكم متابعتي الدائمة لسيدي أحمد؛ ما يكتب، وما يعبر عنه، وما يعمل، لم تفاجئني مغادرته للأخبار،  وإن كنت غير راض عليها تماما. سيدي أحمد كان من رصيد الأخبار، كما أن الأخبار، بنجاحاتها، وإخفاقاتها، صواباتها، وأخطائها، في رصيد سيدي أحمد. كان الثابت الوحيد في الأخبار، والكل عابرون، وكان عنوان الأخبار، كما ظلت الأخبار عنوانه.

 

لقد وصلت الأخبار سن رشد، واختزنت تجربة ستمكنها من تعويض سيدي أحمد. وسيكون سيدي أحمد قادرا على تعويض الأخبار، وإن كانت العلاقة الوجدانية بينهما، ستترك حنينا يتردد بين الجوانح.

 

محمد سالم ولد أعمر. القلم الذي يختزل أزمنة الأدب العربي، ويمزجها بعرامة الاستعارة الحسانية، دون أن يخدش حياء، أو  يتعجل عن بسط حجة.

 

داوم في مؤسسة السراج قرابة عقد من الزمن  لم يرف فيها لقلمه جفن، ولا ندت عن حبره شاردة.

 

كتب في ركن بورتريه، فأبدع، وغطت كتاباته كل المساحات في السراج، كما غطى دوامه كل أوقات العمل بها. وهب محمد سالم السراج عقلا، وقلما، وجهدا لا يكل، ومنحت السراج محمد سالم مكانة القائد فيها، كانت منارا هدى إلى محمد سالم حتى استوى عوده، وكان محمد سالم نورا أضاء لها طريق التميز.

 

كانت استقالة محمد سالم مفاجأة لي في شكلها على الأقل، وإن كنت مقتنعا منذ سنوات أن الأداء اليومي في الإعلام الإخباري لم يعد مكان محمد سالم المناسب، وكنت أتمنى أن تعزله الكتب، والمخطوطات، وسوانح الفكر في ركن مكتبة، يلتقط الشوارد، ويدون الفرائد.

 

ليس محمد سالم وسيدي أحمد مجرد موظفين في مؤسستين؛ كانا روحين تسري في الإعلام الوطني من خلال أدائهما في السراج والأخبار.

 

من  الطبيعي أن يغادر الأشخاص المؤسسات التي يعملون بها، فليس العمل في مؤسسة عقدا أبديا، وإن كان الأمر يثير لغطا في مؤسسات لم يفصل الناس بعد في طبيعة الانتماء إليها؛ فهناك من يعتقد أن العمل في المؤسسات التي ينتمي ملاكها، أو المشرفون عليها، إلى مدرسة فكرية  جزءٌ من الانتماء للفكرة.

 

يغذي هذا الاعتقادَ شيءٌ من "الخصوصية في التوظيف" في هذه المؤسسات، أعرف بحكم التجربة أنه غير مقصود، في أغلبه.

 

إن العلاقة بين سيدي أحمد والأخبار، ومحمد سالم والسراج، كانت أكثر من علاقة بين مؤسسة وموظف بها. لقد كانت، وستظل، (أو هكذا أظن) علاقة إنسان بجزء من رسالته الشخصية التي آمن بها، ووهبها وقته، ثم أتت من بعد ذلك الوظائف، وعقود العمل.

 

سيكون هذا مسوغا لاستغراب كثير من الناس ترك العمل، بمؤسسة مثل الأخبار والسراج، وبأسلوب الاستقالة العلنية، لن تزيله التفسيرات الوجيهة، لكن الاستغراب، لا يستلزم نتائج سلبية، ولا أسبابا خفية.

 

سيكون خروج الصديقين العزيزين فرصة للسراج والأخبار لمراجعة كثير من تاريخهما، بنجاحاته، وإخفاقاته، وسيكون فرصة لإثبات أن التغيير دائما في مصلحة طرفيه.

 

بقي أن أطلب العزيزين بكتابة تجربتهما، في المؤسستين وفي الحقل الصحفي، بعد سنوات العناء والإنجاز؛ فعين التفريط ألا يعرف الناس شيئا عما بذل في عقد من الزمن لإنضاج تجارب، وتحقيق رؤى، أنفقت فيه الجهود، سهرت الليالي، وعصرت العقول.

 

تحية إليكما عزيزي.