الملاحدة الجدد بين الجهل والضياع الحلقة(37) / المرابط ولد محمد لخديم

خميس, 2015-11-12 08:33

 السبب الثالث: أن البلاغة والبيان وجمال الكلمة والتعبير ـ كل ذالك كان قبل عصر القرآن ـ أسماء لا تكاد تنحط على معنى واضح متفق عليه.

      وإنما بلاغة كل جماعة أو قبيلة ما تستسيغه وتتذوقه، ولذالك كانت المنافسات البلاغية تقوم فيما بينهم وتشتد ثم تهدأ وتتبدد، دون أن تنتهي بهم إلى نتيجة،

 إذ لم يكن أمامهم مثل: أعلى يطمحون إليه ولا صراط واحد يجتمعون عليه، ولم يكن للبلاغة العربية معنى إلا هذا الذي يصدرون هم عنه من كلام في الشعر والنثر، وهم إنما يذهبون في ذالك طرائق قددا، ويتفرقون منه في أودية متباعدة يهيمون فيها.       وهيهات لو استمر الأمر على ذالك، أن توجد للبلاغة والبيان العربي حقيقة تدرك أو قواعد تدرس، أو قوالب أدبية تهذب العربية وتحافظ عليها.       فلما تنزل القرآن ، والتفتوا إليه فدهشوا لبيانه، سجدوا لبلاغته وسمو تعبيره، وأجمعوا على اختلاف أذواقهم ومسالكهم ولهجاتهم أن هذا هو البيان الذي لا يجارى ولا يرقى إليه النقد ـ كان ذالك إيذانا بميلاد مثلهم الأعلى ـ فيما ظلوا يختلفون فيه ويتفرقون عليه، وأصبحت بلاغة هذا الكتاب العزيز هي الوحدة القياسية التي تقاس إليها بلاغة كل نص وجمال كل تعبير، ثم تعاقبت الدراسات عليه من أرباب هذا الشأن وعلمائه، فاستخرجوا منه قواعد البلاغة ومقومات البيان ومسالك الإعجاز فكانت هذه العلوم البلاغية التي امتلأت بها المكتبة العربية، وأصبحت فنا مستقلا بذاته.        ولولا القرآن لما عرف هذا الفن ولا استقامت تلك الأصول والقواعد، ولتبدد المثل البلاغي الأعلى في أخيلة فصحاء العرب وشعرائهم.. فكيف يستقيم مع ذالك، أن يدرس هذا الفن وأصوله بمنأى عن مثله الأعلى ومصدره العظيم الأول ؟.       وهذا ما يؤكده ابن خلدون بقوله:" اعلم أن ثمرة هذا الفن (أي البيان) إنما هو فهم إعجاز القرآن ".(132)        السبب الرابع: أن متن هذه اللغة ، كان مليئا قبل عصر القرآن بالكلمات الحوشية الثقيلة على السمع المتجافية عن الطبع.        ولو ذهبت تتأمل فيما وصل إلينا من قطع النثر أو الشعر الجاهلي، لرأيت الكثير منها محشوا بهذه الكلمات التي وصفت وإن كنت لا تجد ذالك إلا نادرا في لغة قريش.        ويستدل البوطي على هذا بقطعة من نص نثري كنموذج لكلامهم في الجاهلية أو كلام الأعراب الذين أدركوا الإسلام ولكن ألسنتهم ظلت على ما انطبعت عليه في نشأة الجاهلية وهي كلمات قالها أعرابي .. يستجدي مالا؛       (أما بعد فإني امرؤ من الملٌطاط الشرقي المُواصي أسياف تهامة، عكفت علينا سنون مُوحٌش، فأجٌنًبت الُذُرى وهمشت العُرى وجَمشَت النجم وأعجًت ألبهم، وهمًت الشحم،     والتًحبت اللحم و أحٌجًنت العظم ، وغادرت التراب مورا، والماء غورا، والناس أوزاعا و الضًهيل جَراعًا، والمقام ًجعٌجاعًا، فخرجتُ لا أتلفَّع بوصيدة.، ولا أتقًوت بمهيدة، فالَبخَصات وقعة والركبات َزلَعة، والجسم مُسَلٌهمٌ،والنظر مُدٌرَهمٌ، فهل من آمر بَمٌبر أو داع بخير" (133)........................................................................................    (133): الملطاط، حرف من أعلى الجبل أو جانب منه، والمواصي: أي المتصل، وأسياف: جمع سيف يقال لساحل البحر، ومحش: بمعنى محرق أي أحرقت الزرع والكلأ. وفاجتبت: بمعنى قطعت، والعرى: جمع عروة  وهي القطعة من الشجر وحميشت بمعنى حلقت، والنجم النبات الذي لا يستقيم على ساق، وأعجبت إليهم أي  جعلنها عجابا وهي جمع عجى وهو ما فقد أمه من الإبل، وهمت الشحم: أذابته، وألحيت اللحم: أي قشرته عن  العظم أي عوجته فصيرته كالمحجن، وغادرت التراب مورا: أي يمور مورا بمعنى يجيء ويذهب، والغور: الغائر، والأوزاع: الأقسام المشتة والضهيل: الماء القليل، وجراعا جمع جرع وهو ما لا يروى من الماء، والجعجاع: المكان الذي يطمئن من قعد فيه،  لا أتلفع: لا أشتمل، يوصيده: أي بأن شيء منسوج، والمهيدة: حب الحنظل، واليخصات جمع يخص: لحم باطن القدم، ووقعه من قولهم وقع الرجل إذا إشتكى لحم باطن قدمه، والزلعة جراحة فاسدة تكون من تشقق اللحم في القدم أو الركبة. جوع أو نحوه، والمبر: العطية من الطعام للإستزادة راجع المزهر للسيوطي، نقلا عن: من روائع القرآن م س، ص: 22.         فلما تنزل القرآن، وأقبلت إليه الآذان، أخذت هذه الكلمات الجافية تختفي عن ألسنة العرب رويدا رويدا، وأصبح متن اللغة العربية كله مطبوعا بالطابع القرآني، ونما ذوق عربي في نفوس العرب أنبته لديهم القرآن وأسلوبه.      ومرد ذالك إلى أن لكلمات هذا الكتاب المبين، رغم أنها كانت عربية لم تتجاوز حدود هذه اللغة وقاموسها، تمتاز.....يتواصل....