الحروب التي خاضتها مصر بعد عام 1948 كانت حروبا وطنية - موقف مصر من الحاصل في غزة الآن نكأ جراحا كثيرة، وأعاد فتح ملف علاقتها بالقضية الفلسطينية بصفحاته الملتبسة وأسئلته المسكوت عليها.
(1)
يتحسرون الآن على زمن عبدالناصر الذي أوهمنا البعض أن حضوره لاح في الأفق. عبر عن ذلك القيادي والمحامى الفلسطيني المعروف والوزير السابق فريح أبومدين. إذ كتب مقالة بهذا المعنى نشرتها له في 23/7 الحالي الصحيفة الإلكترونية «رأي اليوم» ورد فيها ما نصه: لقد نسجت علاقة خاصة بين عبدالناصر وقطاع غزة. كان للقطاع مكانته في قلبه، وهو الذي كان يتابع يوميا أحواله. وكانت له أولوية في كل شيء. في مجالات الحياة كالتعليم والصحة والاقتصاد...إلخ. وكان صارما حازما إزاء أية تجاوزات بحق أهالي القطاع من جانب رجال الإدارة. فغزة كانت بطلة التضحيات في تلك الفترة.. ولعل مذبحة غزة في 28/2/1955 هي نقطة التحول في تفكير عبدالناصر الاستراتيجي، التي دعته إلى كسر احتكار السلاح والاتجاه نحو الكتلة الشرقية وتأميم قناة السويس، وما تلاها من عدوان على مصر وغزة، حيث حارب القطاع بكل بسالة وشجاعة. وكانت المذابح التي ارتكبت ضد شعب غزة في كل مكان، خاصة مذبحة خان يونس، التي سقط فيها 1550 شهيدا.. وقد حفظ الرجل ذلك لغزة وأهلها. فحين انسحبت إسرائيل من سيناء ورفض بن جوريون الانسحاب من غزة، رفض عبدالناصر كل الحلول بعيدا عن غزة، وخرج إلى الشوارع شعب القطاع من 7 إلى 14 مارس عام 1957، حتى عادت غزة إلى مصر، ولم يتركها عبدالناصر خلفه، بعد ذلك دخلت غزة في جولة جديدة أثناء حرب يونيو عام 1967، فحاربت مع الجيش المصري ببطولة شهد بها الأعداء. ولم تسقط إلا بعد أن سقطت سيناء والجولان والضفة، ولكنها امتشقت سيف المقاومة فور احتلالها، وظل عبدالناصر يستشهد بتلك المقارنة كما ظل مسكونا بفلسطين وبغزة إلى أن انتقل لرحمته تعالى.
تساءل فريح أبومدين بعد ذلك قائلا: يا ترى هل لو بقى عبد الناصر حيا كان سيترك غزة خلفه؟ وهل كان سيترك غزة تحاصر وتجوع وتذبح. ثم ختم بقوله: يا عبدالناصر لو أطللت علينا من قبرك لوجدت غزة في خندقها تحارب يومها ودموعها وأطفالها ونساؤها ورجالها. فنم قرير العين ولا نامت أعين الجبناء.
(2)
كأننا نتحدث عن زمن سحيق، وليس عن سنوات عاشها جيلنا، قبل أن تأتى أجيال تشوهت وتلوثت، حتى اختلطت عليها الأمور وصارت ضحية الحيرة والبلبلة. فأصبح العدو صديقا والشقيق عدوا. ودفعت فلسطين ثمن ذلك الانقلاب البائس.
في ظل الأوضاع المستجدة شاع بين كثيرين أن غزة وقضية فلسطين عبء على مصر. حملته طويلا، وضحت من أجله حتى خاضت حروبا عدة، وقدمت في ذلك مائة ألف شهيد من أبنائها. وهي مقولة ينطلق منها بعض السياسيين والإعلاميين، الذين باتوا يتحدثون في الموضوع بدرجات متفاوتة من التبرم والضجر، وهذه المقولة تحتاج إلى تفكيك يرد الأمور إلى نصابها ويضعها في إطارها الصحيح.
من المفارقات اللافتة للنظر أنه في حين يشيع في مصر أنها تدافع عن غزة وأنها ضحية لها، فإن الشعور السائد في غزة أنها هي التي تدافع عن مصر وتضحي من أجلها، وسمعت من بعض المثقفين الفلسطينيين قولهم أن «لعنة الجغرافيا» كتبت على غزة أن تصبح حائط الصد الذي يمنع التمدد الإسرائيلي من الوصول إلى الحدود المصرية. وأنه لولا ذلك الشريط الضيق المطل على البحر المتوسط الذي يتكدس فيه نحو 2 مليون شخص ويحتفظ بحدود مع مصر بطول 13 كيلومترا. لكانت إسرائيل واقفة على باب مصر الشرقي. وهي التي تتطلع إلى ذلك منذ عام النكبة (1948)، وقد احتلت إسرائيل القطاع حينذاك، وهو تحت الحكم المصري، ولكن إنذارا بريطانيا أخرجها منه. ثم عاودت احتلاله في عام 1956 (أثناء العدوان الثلاثي) واستردته مصر بعد الإنذار الروسي الشهير ليعود إلى الحكم المصري في عام 1957. واحتلته مرة ثالثة في عام 1967 بعد الهزيمة التي استولت فيها إسرائىل على سيناء. وظل تحت الاحتلال العسكري المباشر حتى عام 2005، الذي انسحبت فيه إسرائيل من القطاع بعدما عانت الكثير جراء وجودها فيه. وكان قد أصبح مشمولا، بالحكم الذاتي بموجب اتفاقية أوسلو التي وقعت عام 1993.
خلال تلك المراحل، دفعت غزة الثمن نيابة عن مصر وبسببها، حين ذهب الجيش المصري إلى فلسطين في عام 1948 مع غيره من الجيوش العربية تنفيذا لقرار الجامعة العربية، وحين تعرضت مصر للعدوان الثلاثي في عام 56 بسبب تآمر بريطانيا وفرنسا ضد الرئيس عبدالناصر الذي ضمت إليه إسرائيل. وبسبب حرب عام 67 التي وقعت بعد إغلاق الرئيس عبدالناصر مضيق تيران في وجه السفن الإسرائيلية، ردا على تهديد رئيس الوزراء الإسرائيلى ليفي اشكول بالزحف على دمشق. في هذه الجولات الثلاث دفع قطاع غزة ثمن جيرته لمصر، فجرى احتلاله وسالت دماء أبنائه غزيرة، الأمر الذي يستعيده المثقفون الفلسطينيون كلما أثير أمامهم السؤال من دافع عن من: غزة أم مصر.
(3)
ما سبق يثير التساؤل التالي: هل صحيح أن مصر خاضت حروبها دفاعا عن فلسطين؟ الشائع في مصر أن السؤال مردود عليه بالإيجاب. وهو رد تروج له وسائل الإعلام، في حين أن التاريخ يقول بغير ذلك. ذلك أنه منذ قررت الجامعة العربية في 12 أبريل عام 1948 إرسال الجيوش العربية إلى فلسطين إثر انتهاء الانتداب البريطانى، فإن دولا عدة استجابت للقرار. وكانت مصر على رأس تلك الدول التي ضمت الأردن والعراق وسوريا ولبنان والسعودية. ومعروف أن الحكومة المصرية عارضت التدخل في فلسطين في البداية وكان رأى إسماعيل صدقي باشا أن مصر تستطيع أن تتعايش مع دولة يهودية على حدودها الشرقية وفقا لقرار التقسيم، ولكن الملك فاروق كان من مؤيدي المشاركة سواء لتنافسه مع الملك عبدالله ملك الأردن أو لتطلعه إلى زعامة العالم العربي، فأصدر أوامره إلى الجيش بالاستعداد للمشاركة في الحرب. وفي يوم 15 مايو كانت طلائع القوات المصرية التي ضمت أكثر من تسعة آلاف ضابط وجندي قد بدأت العمليات على أرض فلسطين يقودها اللواء أحمد علي المواوي.
هذا الذي حدث في عام 1948 كان المرة الوحيدة التي خرجت فيها القوات المسلحة المصرية للاشتباك مع العصابات الصهيونية في فلسطين. ولأن القرار صدر عن الجامعة العربية فقد كان مفهوما أن مجلس الجامعة فعلها للتصدي لخطر بدا أنه يهدد الأمن القومي العربي. فيما عدا ذلك فلم يحدث أن خاضت الحكومة المصرية بجيشها أية حرب ضد إسرائيل استهدفت الدفاع عن فلسطين. وقد سبقت الإشارة إلى أن حرب 56 قادتها إنجلترا وفرنسا ومعهما إسرائيل بهدف إسقاط النظام المصري بقيادة جمال عبدالناصر، وحرب 67 كانت بسبب وقوف عبدالناصر إلى جانب سوريا وإغلاقه مضيف تيران. وما عرف باسم حرب الاستنزاف التي وجهت ضد إسرائيل آنذاك تمت ضمن جهود إزالة آثار العدوان، وهو الشعار الذي رفعه عبدالناصر آنذاك والذي تجاوز به فكرة تحرير فلسطين. أما حرب 73 فإنها استهدفت إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لسيناء الذي ظل مستمرا منذ هزيمة عام 67.
الخلاصة أن الحروب التي خاضتها مصر بعد عام 1948 كانت حروبا وطنية مصرية استهدفت الدفاع عن المصالح القطرية العليا بالدرجة الأولى. ولذلك يتعذر التعميم فيها والادعاء بأنها كانت من أجل فلسطين. وموقف عبدالناصر من إسرائيل آنذاك كان جزءا من موقفه الرافض للممارسات الاستعمارية الذي تجلى في مساندته لحركات التحرر الوطني سواء التي قاومت فرنسا في المغرب العربي أو قاومت انجلترا في إفريقيا.
هذا التحليل ــ إذا صح ــ فإنه يقودنا إلى نتيجة أخرى تستحق تفصيلا أكثر.
(4)
تتداول الأوساط السياسية والإعلامية معلومة مفادها أن مصر قدمت مائة ألف شهيد في دفاعها عن القضية الفلسطينية، ولا يستطيع أي باحث منصف أن يتجاهل ما قدمته مصر لصالح القضية، لكن العطاء المصري الحقيقي ظل سياسيا بالدرجة الأولى، وفي المرحلة الناصرية دون غيرها. سأشرح ذلك توا ولكن بعد تحرير مسألة المائة ألف شهيد. ذلك أن الذين استشهدوا على أرض فلسطين في حرب عام 1948 لم يتجاوز عددهم 1161 شخصا بينهم مائة ضابط و861 جنديا و200 متطوع من خارج القوات المسلحة (الشهداء من رجال القوات المسلحة على الأقل أسماؤهم مسجلة ومحفوظة) وهذا الرقم أورده المؤرخ العسكري المصري اللواء إبراهيم شكيب في كتابه «حرب فلسطين 1948 ــ رؤية مصرية»، وهو رقم لم يختلف كثيرا عن تقييمات المصادر الأمريكية، وإن بالغت فيه قليلا المصادر الإسرائيلية (موقع جويش فيرتال ليبرتي ذكر أن عددهم 2000 شهيد) للعلم: اللواء شكيب ذكر أن الجيوش العربية كلها قدمت في تلك الحرب 15000 شهيد و25 ألف جريح وإسرائيل سقط منها 6 آلاف قتيل و15 ألف جريح.
وإذا جاز لنا أن نستطرد ونتتبع أرقام شهداء القوات المسلحة في الحروب اللاحقة، فإننا لا نستطيع أن نتجاهل المعلومات التي وردت على لسان الفريق محمد فوزي وزير الدفاع الأسبق، الذي ذكر أن شهداء عدوان 56 حوالي ثلاثة آلاف شخص أما الذين استشهدوا في عام 67 فعددهم عشرة آلاف، وشهداء حرب عام 73 وصل عددهم إلى خمسة آلاف، الأمر الذي يعني أن العدد الإجمالي للشهداء منذ 1948 حتى الآن عددهم لا يزيد على 20 ألف شخص. الأمر الذي يدحض رقم المائة ألف شهيد ويبين أنه لا أساس علميا أو تاريخيا له.
أما لماذا قلت أن عطاء مصر للقضية الفلسطينية كان سياسيا بدرجة أكبر وفي المرحلة الناصرية دون غيرها فردي أوجزه فيما يلي: أن الأداء العسكري للجيش المصري وللجيوش العربية كلها في عام 48 كان ضعيفا بشكل عام، رغم وقوع عدة بطولات استثنائية وفردية، يكفي أن جيوش الدول العربية الست دخلت الحرب والعرب يسيطرون على 73٪ من الأرض وحصة الإسرائيليين لا تتجاوز 27٪ وحين انتهت الحرب كان الطرفان قد تبادلا الحصص لصالح الإسرائيليين بطبيعة الحال وأطلس فلسطين الذي أصدره الدكتور سلمان أبوستة يشرح ذلك الجانب بالتفصيل ويرجعه إلى ضعف الجيوش العربية وقوة خبرتها في حين أن العصابات الإسرائيلية تفوقت في العدد وفي القدرة العسكرية والكفاءة القتالية (ضباط تلك العصابات كانوا من المحاربين الذين خاضوا معارك الحرب العالمية الثانية).
هذا عن الشق العسكري، أما ما قلته بخصوص تميز الدور السياسي المصري في المرحلة الناصرية فلعله ليس بحاجة إلى شرح. ذلك أن عبدالناصر وقف إلى جانب الشعب الفلسطيني والمقاومة في عهده، في حين أن السادات انقلب عليهم وضرب القضية بمعاهدة السلام مع إسرائيل. أما مبارك فقد سار على دربه حتى وصف بأنه كنز إسرائيل الاستراتيجي. وقد ظل المؤشر ينحني حتى وصلنا إلى ما نحن فيه وما لا أستطيع أن أصفه، تاركا لك ذلك الوصف بعد أن تقرأ في صحف الصباح أخبار إغلاق معبر رفح في وجه الجرحى، وتتتبع ما جرى منذ إطلاق المبادرة وصولا إلى أطلال «الشجاعية».