قبل ثلاث سنوات، رحل عن دنيانا الفانية، المرحوم المصطفى ولد محمد السالك؛ أول رئيس للجنة العسكرية للإنقاذ الوطني (1978ـ 1979). وبقيت ذكرى هذا الرجل الورع، النبيل، الوطني والديمقراطي؛ حاضرة في أذهان الموريتانيين.
أحد معاونيه السابقين؛ العقيد المتقاعد آن أمادو بابالي، أول مسؤول للتموين بالجيش الوطني، والوزير السابق؛ يقدم فيما يلي شهادته عن الرجل:
تعرفت على المرحوم المصطفى ولد محمد السالك، للمرة الأولى في يناير 1965 حيث كان قد التحق بالجيش الموريتاني الفتي ويتولى قيادة السرية الأولى للاستطلاع بأطار. كنت أنا عائدا من فرنسا حيث أكملت تكويني كضابط إداري.
كانت مهمتي في أطار تتمثل في حصر المعدات التي تركها الجيش الفرنسي. جعلني على صلة بالضباط الشباب الذين كان علي أن أعمل معهم. يتعلق الأمر بكل من محمد سيدينا ولد سيديا، وديينغ نذيرو، وأحمد ولد منيه رحمهم الله جميعا. لاحظت، أدركت في الرجل على الفور، روح المسؤولية والاستقامة وعزة النفس.
بعد ثلاث سنوات، تم تعيينه قائدا لأركان الجيش. كان شغله الأول هو سد الفراغ الذي خلفه خروج الفرنسيين واستمرار الإسناد الفني، لذا أوكل لي إدارة المكتب الفني؛ وهو جهاز يشرف على جميع المعدات الفنية للجيش: سيارات، أسلحة، ذخيرة، محروقات، بنايات...
لقد انطبعت في ذاكرتي تلك الرحلة إلى دوالا بالكاميرون والتي جمعتني ـ أنا و العقيد آتيي هامات ـ مع المرحوم المصطفى قائد الأركان حينها.
كان الهدف من الرحلة هو الاطلاع على التجربة الكاميرونية في مجال الهندسة العسكرية؛ حيث كان المصطفى يسعى لتزويد الجيش الوطني بجهاز مشابه. أعجبت بخصاله، ليس كقائد فحسب بل ـ أيضا ـ كأخ وكصديق وكوطني كانت رغبته الوحيدة بناء جيشنا الوطني الناشئ.
توليت، إذن، إدارة تلك الهيئة في الجيش الوطني تحت إمرته في قيادة الأركان إلى أن تم تفريغه لتولي وظائف مدنية؛ خاصة والي ومدير شركة للدولة (سونمكس). لكننا احتفظنا بعلاقات جد ممتازة، بالنظر إلى الذكرى التي بقيت لدي عنه والتي لا تنسى؛ فقد كان أول ضابط موريتاني يقودني.
التقينا مجددا خلال توليه قيادة الأركان مرتين. وفي تلك الأثناء تمت ترقيتي ضابط تموين منذ سنة 1973 ولما عاد وجدني أصبحت ممونا.
ولدى عودته الأخيرة لقيادة الأركان؛ كانت حرب الصحراء في أوجها. وكان عائدا من الجبهة (المنطقة العسكرية بأطار). وأتذكر مساعديه الرئيسيين، وهما ـ حينها ـ العقيدان معاوية ولد الطائع؛ المكلف بالعمليات، ويال عبد الله المكلف باللوجستيك. وكنت تابعا لهذا الأخير.
لم تكن لدى الجيش إمكانيات كافية فى صراع لم يستعد له. لكن رغم كل ذلك قام المصطفى دائما بإدارة كل الأوضاع الصعبة، بكثير من الدقة والمسؤولية. وذات يوم، دعاني معاوية الذي كان قائدا مساعدا للأركان مكلفا بالعمليات؛ من أجل تحضير رواتب وأغذية الوحدات المرابطة في مواقع منقدمة ببئر أم اكرين؛ على أن يتم شحنها جوا في اليوم الموالي. كنا بحاجة إلى ثلاثين مليون أوقية؛ لكن المبلغ لم يكن موجودا في الخزينة.
استغرب معاوية الأمر ووصل نقاشنا، بصوت مرتفع، إلى مسامع المصطفى؛ فالتحق بنا سأل ما الذي يجري؟ شرح له معاوية ما قلت له لنوي من أن المال غير موجود لدفع رواتب الجنود ومؤونتهم الغذائية.
عندها قال المرحوم المصطفى لمعاوية: "ألا تعلم حقا أن هذا البلد في حالة خراب؟ لا يوجد أي شيء هنا..." قبل أن يأمرني بالذهاب إلى الخازن العام للدولة.
عدت وأبلغت القائد بنتيجة مهمتي؛ فقام على الفور بالاتصال بسالم فال، الذي كان ـ يومها ـ أمينا عاما لوزارة الدفاع، لكنه كان أيضا صديقه وزميله بنفس الدفعة؛ الذي وجد لنا حلا لتلك المعضلة.ثم ذهبت لجلب المال. ورغم كل ذلك الضغط، تصرف المصطفى بهدوء تام. ولم أشعر لديه، في أية لحظة، أبسط انفعال رغم حالات الضغط الشديد التي مر بها، خاصة عندما يجد المرء نفسه في مكتب لمدة 24 ساعة متواصلة.
لقد استطاع دائما، بفضل الله، أن يسيطر على أصعب الظروف وينظم الفريق الذي يحيط به لكي نكون مرتاحين في أداء واجباتنا.
حظي الرجل بتقدير نظرائه وجميع مرؤوسيه. رحمه الله.
العقيد (متقاعد) آن أمادو بابالي