عن صدام حسين في ذكرى وفاته التاسعة

من غير نَدَمٍ ولا ارعواءٍ مضى ملء العيون مهابةً وقبولا.. مضى في طريق البطولة العربية وخطِّ رسالةِ امته الخالدة، على نحو هزت لحظاته الرجراجة أفئدة كل الصادقين في مشارق الارض ومغاربها كما برهنوا بأوضح وسائل التعبير صدقا وعفوية، بالنحيب والدموع الحرى والمتجمدة في الأحداق، ووجيب الغضب واختلاج النفوس وهبات الحنق على المحتل وأذنابه وانحدار الزفرات التي آسى بها بعضهم بعضا.

 

لكن في الغالب للتخْفِيفِ مِنْ حُزْنِهِ وَمُصَابِهِ هو نفسه قبل أن يكون لمن يواسيه، توشحوا بالسواد وانهمرت مشاعر الحزن بينهم على نحو لم تعهده الساحات رغم اشتداد الوجل والنكبات في العصور الحديثة: عمهم الإحساس بالبلوى واللوعة الجماعية التي خص الله به نظرة الأمة لحادث استشهاده وبطولته: ( ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم) . 

 

أكد التوجه العام من وقفة الشهيد أن الأمة في وجدانها الجماعي وفي يقظتها الفطرية مهيأة في كل لحظات الزمن ان تحتفي بأبطالها وتلعن خونتها ويستحيل أن تساوي بين الجبناء والشجعان، ولا بين المخلصين ومن لم يستقروا بعد على موقف واضح، ولا بين النزهاء والمدنسين، ولا بين الصادقين والكاذبين.. ولا بين القمم ومجرّد مثابات دالة فوق أرض مستوية كما أكد الشهيد في إحدى مقولاته، المعروفة. مضى الشهيد ووميض مهجته يُشِعُّ بسنا روح استشهاد نأتْ زهوا ومروءة عن كل مسارات الوَهَنِ التي وُصفت في الحديث النبوي الشريف ب :حب الدنيا وكراهية الموت.

 

مضى برجولةٍ ومُهجة لم يرتجف صاحبهما ولم يفكر في البحث عن أرض تَمتدّ للهارب أو تُخْفي المتواري، في زمن كثر فيه المتوارون وملأت شاشاته صور الهاربين، مضى بعد ان ودع ابنيه عدي وقصي وحفيده مصطفى قصي في عرس استشهاد معركة الموصل الحدباء، التي أعاد فيها الطفل مصطفى قصي لبِيض السّيُوفِ وَسُمْر القَنَا العربية صليلا هجرته منذ عهد المتنبي وسيف الدولة، وأحالت بندقية يده مفرزة كاملة من علوج المارينز إلى طرائد ظل رصاصه في دمائها يعوم من فجر المعركة حتى استشهاده مع أبيه وعمه عند الغروب .. خطوة أبي الشهداء الأولى إلى قُرص الشمس في رحلة ميلاده الأسطوري بدأها في ذلك البهاء الجميل والسمت المُبْهج ووقار الهيأة الذي جابت صوره البيد والآفاق في أول لحظات الإشراق المعهودة لاجتهاد وتضرع و دعاء ملايين المسلمين في غبش يوم الحج الأكبر من عام 1428، حين لاح لهم فجر بشري يردد دون زيغ أو حيرة أو تلعثم كلمة الشهادة كاملة بتلاوة مُنَغَّمَةٍ وصوت حسن: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ) .

 

  وقفة أقامت كل تفاصيل لحظتها من المُشاهَدِ المحسوس أسطورة اعتُبر الوصف فيها مهما بلغ البيان قاصرا عن العِيَّان، ويزيد من غرابة أمرها أن تفاصيل وقائعها نقلتها عدسات الغادرين وشياطينهم أحفاد أبي رغال لتقدم لملايين المشاهدين غصبا عنهم نقيض ما قصدوه من فعلهم الجبان، فلولا هذه العدسات لكانت الحكاية الحقيقة لملحمة الاستشهاد، في أقصى مراحل تقَبِّل العقل البشري للظواهر الكونية المطردة: خرافة أو أسطورة، او في احسن الحال إغراق في الخيال وتأويل بعيد له. 

 

تأتي الذكرى التاسعة وفق التقويم الميلادي لهذا الحدث وقد حازت شرفا وعلوا لم تحظ بهما من قبل وقد لا تحظى بهما في القريب الآجل من قادمات السنين، تأتي والأمة تعيش غمرة رحمات احتفالها بذكرى مولد خير البشرية محمد صلى الله عليه وسلم صبيحة الاثنين في دار ابي طالب بشعب بني هاشم في جوف مكة المكرمة يوم الاثنين الموافق للرابع والعشرين من شهر نيسان 571 ميلادية، وهو الميلاد الذي انشق له إيوان كسرى وانطفأت نار الفرس، ميلاد استقبلت به البشرية رحمات السماء ونور الهداية، وبه كرّمت السماء أمة حملت رسالة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم إلى الآفاق ليس بغية في التوسع أو شهوة للسيطرة والاستعباد بل لتستجيب لأمر إلهيٍّ كله حق وهداية ورحمة وعدل، أراق أبناؤها من اجله دماءهم، واقبلوا عليه خفافاً متهللين لوجه الله كما تهلل وجه الشهيد وهو يكرر الشهادة بخطو سريع مُتدانٍ إلى منصة الشهادة.