هل نحتاج إلى مرافعة لكي نثبت أن قضيتنا الآن هى الدفاع عن غزة وليس الدفاع عن المبادرة المصرية؟ هذا السؤال اصبح واردا بعدما تكاثرت الغيوم فى فضائنا بحيث اختلطت الاوراق والتبس الأمر بحيث وصلنا الى وضع صار فيه الشقيق عدوا والعدو صديقا وحليفا والقاتل بريئا والقتيل مدانا ومتهما. الى غير ذلك من القرائن التى تعيد الى اذهاننا صور المفارقات التى تقلب السنن وتهدر النواميس، وهو ما عده أسلافنا من علامات الساعة الصغرى.
إن محرقة غزة تجاوزت الآن أسبوعها الثالث وأعداد القتلى تجاوزت الألف والمصابون ناهزوا الستة آلاف، والغارات والقذائف الإسرائيلية مستمرة ليل نهار، وبدا واضحا حتى الان ان المبادرة المصرية لم تحرز أى تقدم إيجابى، فى حين ان اسرائىل فرحت بها واستغلتها اسوأ استغلال. من ناحية لأنها تذرعت بقبولها ورفض حماس والجهاد لها لكى تواصل الغارات وتكثفها، مدعية أمام العالم الخارجى انها هى التى قبلت بالسلام ووقف إطلاق النار فى حين أن المقاومة الفلسطينية هى التى رفضت يد السلام الممدودة. من ناحية ثانية لان اسرائىل اعتبرت ان مصر صارت شريكة معها فى الحرب ضد المقاومة الفلسطينية. بل وذهبت إلى القول بأنها صارت تعتمد فى حربها على شرعية عربية سابقة على الشرعية الدولية. من ثم فإنها لم تعد وحيدة فى مواجهة المقاومة الفلسطينية، وإنما تقف معها مصر والسعودية والامارات، وهو ما أشارت اليه كتابات اسرائيلية عدة أحدثها ما ذكره رون بن يشاى، المعلق العسكرى لصحيفة يديعوت أحرونوت، فى 29/7. من ناحية ثالثة فإن اسرائيل احتمت بالمبادرة المصرية وتشبثت بها لتبرير رفضها أى مبادرات اخرى تحقق اى قدر من الإنصاف أو المقابل للفلسطينيين، بما فى ذلك الافكار الامريكية التى طرحها جون كيرى، وزير الخارجية.
من ناحيتى اعتبر ان المبادرة اجتهاد مصرى يصيب ويخطئ ولا يستطيع احد ان يدعى انها قرآن منزل من السماء ولا أنها من الثوابت المصرية، لاننى أفهم ان الدفاع عن قضية فلسطين والانحياز إلى مقاومة الاحتلال هو أحد تلك الثوابت، ولكن إسرائيل ابتذلتها مستفيدة من عناد بعض الاطراف فى القاهرة وحولتها الى صفحة سوداء فى سجل السياسة المصرية ووصمة تحتاج إلى جهد كبير وسنوات عدة لإزالة آثارها.
إن اعلامنا الرسمى وخطابنا السياسى أصبح يتعامل مع المبادرة باعتبارها صيغة مقدسة، فصار يسبح بحمدها كل صباح ويصورها بحسبانها الحل الاوحد الذى لا بديل له، والقول الفصل الذى لا حيدة عنه ومحور كل اتصال ونهاية كل جهد وملاذ المتحاربين ومنقذ المقهورين، وهو إصرار يبعث على الدهشة لأنها منذ القيت فى الفضاء السياسى رفضتها فصائل المقاومة الفلسطينية بالاجماع الى جانب انها أضرت بأكثر مما نفعت ليس فقط فى ساحة المواجهة، ولكنها أضرت كثيرا بسمعة مصر ونظامها، حيث يكفى أن يشاع انها صارت مع إسرائىل «يدا واحدة» فى مواجهة المقاومة الفلسطينية ممثلة فى حماس والجهاد بالدرجة الاولى وقد كان ذلك الاعتبار الاخير كفيلا وحده باعادة النظر فى المبادرة، للاحتفاظ بمسافة تنفى فضيحة التطابق والشراكة بين الموقفين المصرى والاسرائيلى.
لقد ابرزت الصحف الصادرة امس خبر الاجتماع الذى قررت قيادة منظمة التحرير عقده فى القاهرة بحضور حركتى حماس والجهاد للبحث فى مخرج من الازمة الراهنة، وأعطى «الأهرام» انطباعا بأن ذلك يتم فى اطار المبادرة المصرية وحين رجعت فى ذلك إلى الدكتور موسى أبومرزوق نائب رئيس المكتب السياسى لحركة حماس، فإنه نفى العلاقة بين المبادرة والاجتماع المفترض وقال ما خلاصته ان المبادرة «اصبحت وراء الظهر» فى الوقت الراهن وان هدف الاجتماع هو البحث عن مسار آخر يتجاوب مع موقف المقاومة وإصرارها، بعد الثمن الباهظ الذى دفع، على ألا تعود الامور إلى ما كانت عليه قبل عدوان الثامن من يوليو وأضاف ان عقد الاجتماع فى القاهرة بمثابة تأكيد على اهمية مصر الدولة ووزنها الذى تحرص عليه حماس وهى الأهمية التى لا تتأثر بأى خلاف يقع فى الاجتهادات السياسية.
لقد نبهت بعض الكتابات فى مصر إلى الثغرة الاساسية والخطأ الجوهرى الذى وقعت فيه القاهرة حين اطلقت المبادرة دون اى تشاور مع المقاومة الفلسطينية، والاعتراف بذلك الخطأ والسعى الى تداركه يتطلب قدرا من الشجاعة والحكمة التى ينبغى ان يتحلى بها اى اداء سياسى رصين. ويبدو أن مصر فى وضعها الراهن صارت تخلط بين الأداء السياسى الذى يحتمل الاخذ والرد والمراجعة وبين الاداء «السيادى» الذى يتشبث بالرأى ولا يقبل النقد أو النقض. ولكل منهما مجاله الذى تستلتزمه طبيعته لإن ادارة الدولة تختلف كثيرا عن إدارة المعسكر وكما تفشل الادارة السياسية لأى معسكر، فإن الفشل يصبح مضاعفا حين تدار الدولة بالعقلية السيادية.. والله اعلم.