المثل العربي القائل: مصائب قوم عند قوم فوائد، قد ينطبق على مصيبة دونالد ترامب التي لن تكون مصيبة للجميع بل قد تترك آثارا حسنة هنا و هناك. لا أحد حتى الآن يعرف ما سيفعل الرجل و ما لن يفعل مما قال أو لم يقل في حملته الانتخابية الصاخبة و لكن الشيء المؤكد أنه سيفعل أشياء كثيرة فالرجل لا يحب العطالة و لم يأت إلى البيت الأبيض لمجرد متعة الجلوس في المكتب البيضاوي.
مؤكد أن مسيرة القيم الإنسانية تلقَّت ضربة قوية بانتخابه فهو لا يخفي عداءه للأقليات و يحمل قدرا كبيرا من الذكورية و لا ينظر إلى العالم الخارجي بكثير من التعاطف و ليس من محبي النعومة الديمقراطية و يميل إلى الوسائل الأعنف و لا يرى أن على أمريكا مسؤوليات تجاه بقية العالم بوصفها الدولة الأقوى... و يَعِدُ في سياسته الخارجية خاصة بكثير من المخاطر على للبشرية جمعاء و بالأخص في ما يتعلق بالمناخ و حرية التجارة... هذا بالإضافة إلى ان ميله الواضح للدكتاتوريين( مثل بوتين و السيسي) لا يبشر بخير فيما يتعلق بحقوق الإنسان في العالم و نصرة المستضعفين.
لكن بالمقابل قد تكون لنسمة الصدق و المباشرة التي يحملها الرجل آثارا مطهرة على المناخ السياسي العالمي الذي يطبعه النفاق و التصنع و باختصار Le politiquement correct و تعوزه الصراحة. و من الواضح أن النظام السياسي الغربي بالذات رغم شكله الديمقراطي فيه الكثير من الفساد و الغموض و يفتقر إلى الصدق مما ينعكس سلبا ليس فقط على الإدارة المحلية بل على إدارة الأزمات الدولية وعلى المناطق الأخرى من العالم التي تحتفظ فيها القوى الغربية بنفوذ كبير كما هي الحال في عالمنا العربي. فعالمنا العربي عاني كثيرا من نفاق الطبقة السياسية الغربية خاصة في الولايات المتحدة و ابريطانيا و فرنسا التي تُشترى بالأموال من جهتين: جهة ما يذهب إلى الجيوب الخاصة من هدايا و رحلات و إقامات للمسؤولين النافذين، و جهة الصفقات الضخمة خاصة صفقات السلاح التي يتهافت عليها الحكام الغربيون لإنعاش اقتصادياتهم و بالتالي المساعدة على إعادة انتخابهم.
كما أن تصميمه المعلن على اعتبار الإرهاب عدوه الأول سيساهم في القضاء على هذه الظاهرة في جذورها و خاصة في لجم الدول الممولة للإرهاب و المحتضنة له مما سيكون له نتائج جيدة على المديين القريب و البعيد إذ سيساعد على نزع الكثير من الفتيل في بعض البؤر المشتعلة كما في سوريا لمصلحة الشعب السوري الذي قد يكون من أول المستفيدين من وصول ترامب إلى الحكم بتمهيد الطريق أمام حسم الحرب لصالح النظام، و هو أفقٌ، مهما كانت مساوئه، يظل الافضل لأنه يسمح بوضع حد للإحتراب في حين أن استمرار الحرب أو حتى حسمها من قبل ما يسمى بقوى المعارضة لن يؤدي إلا إلى مزيد من الحروب و المعاناة. و من المأمول أيضا ان تُسهم هزيمة الإرهاب المحتملة في توجيه العقل و المال العربيين نحو وجهة أخرى أكثر جدوائية لتبوء مركز مقبول بين الأمم بدل أحلام السيطرة عليها من خلال سيوف الفاتحين.
من الواضح أيضا أن سياسة ترامب تتجه إلى المزيد من التخلي عن العالم العربي و الشرق الأوسط بل عن كل حلفاء أمريكا في العالم و تركهم يواجهون مصائرهم بأنفسهم و هو اتجاه كان قد بدأ مع أوباما في الشرق الأوسط و رأينا كَم أحدث من هلع و شكوى خاصة في الدول ذات العلاقة الحميمة مع أمريكا و أعني الدول الخليجية. لكنْ في المجمل هذه السياسة ستكون في النهاية ذات أثر جيد على مستويات عدة أكتفي منها هنا بكونها ستوجه طعنة إلى هذا الصنم الذي يسمى نظرية المؤامرة و الذي تستغله كل قوى الهدم في العالم العربي سواء كانت دكتاتوريين طغاة يقيمون عروشهم على عنتريات المقاومة الفارغة للمؤامرة الغربية ، أو صانعي الإرهاب الذين يملأون الصدور بالحقد المريض و الهدام على أمريكا و الغرب مهما قالت أو فعلت و حتى لو كانوا هم الذين يقفون وراء أقوالها و أفعالها!
ربما سيجعلنا ترامب أخيرا نبدو على حقيقتنا لأنفسنا، مسؤولين مسؤولية كاملة عن حاضرنا و عن مستقبلنا و يقطع الطريق على تبرير عجزنا بالمؤامرات الغربية. أكثر من ذلك ترامب قد يكون المرآة التي نرى فيها أنفسنا و نستطيع أن نحكم عليها أخلاقيا بعيدا عن خطاب المديح الزائف و الخدَّاع الذي يبثه الإعلام المغشوش و يؤكد لنا باستمرار أننا خير الناس مهما فعلنا ، وأن امتنا افضل الامم كيفما كانت! ترامب قد يجعلنا أكثر أخلاقية و نحن نتفرج على مثاله الأخلاقي السيئ: على كرهه للآخر، عنصريته، ذكوريته، أنانيته، أحتقاره للأديان الأخرى... و باختصار الكثير مما فينا من مساوئ جعلت منا أمة عاجزة عن التعايش مع الأمم الأخرى.
بعبارة أخرى : ترامب سيجعلنا نرى شخصا على مثالنا و بمقاسنا يصل إلى البيت الأبيض لنكتشف كم أننا قد نصبح خطيرين خاصة حين نكون في البيت الأبيض!