أعلن الطبيب والفنان الشهير علاء بشير براءته مما وصف بمذكرات طبعت باسمه قام صحفي نرويجي بتحريرها وتولت دار الشروق المصرية توزيع نسختها العربية،
ونفى بشير المقيم في لندن حالياً لـ(الزمان) ان يكون قد تحدث بالنحو الذي جاء في المذكرات، متهماً القوات الامريكية المحتلة بالاستيلاء على فصول مهمة من مذكراته الاصلية، التي صاغ فصولها منذ مطلع عام 1980 في بغداد.
وقال (ان عمليتي دهم لمنزلي من قبل القوات الامريكية فتحت المجال لسرقة محتوياته ومقتنيات شخصية ثمينة تولى نهبها ايضاً الحواسم وافراد من الفنانين، تم التعرف على اسمائهم من قبل جيراني في حي الاطباء بمنطقة الجهاد).
وكان بشير الذي اشتهر باجراء عمليات تجميل جراحية فريدة في بغداد وانجاز لوحات فنية ونصب وتماثيل ظلت الى عقود موضع دراسة واهتمام من مختلف الاوساط الثقافية، قد تحدث في لقاء مصادفة على هامش المعرض الاستعادي للفنان ضياء العزاوي لـ (الزمان) عن مشاغله ورؤاه وبعض اسرار مهنته بوصفه طبيباً شخصياً للرئيس السابق صدام حسين، وعن انجازاته التشكيلية، التي تكللت بمعارض اقامها بين الاعوام 2003- 2016 في كل من انكلترا والولايات المتحدة الامريكية، وفيما يلي نص اللقاء:
دكتور علاء دعنا اولاً نسألك عن اسباب مغادرتك العراق..
هل هناك وقائع حقيقية ام مجرد تخوفات قادتك الى ترك بغداد والعيش بعيداً عن المدينة التي تحبها؟
اثر سقوط بغداد بيد جنود الاحتلال الامريكي ودخولهم عبر منفذ مطار بغداد، القريب من منطقة سكناي، تم دهم منزلي مرتين وتفتيش محتوياته بطريقة همجية ادت الى سرقة مقتنيات شخصية ثمينة، بينها فصول من مذكراتي الشخصية التي شرعت بتدوينها منذ مطلع الثمانينات من القرن الماضي، وتتضمن هذه المذكرات معلومات مهمة تتعلق بدراسة نفسية حاولت انجازها عن الانتقالات المعنوية لضباط الجيش العراقي الجرحى، الذين كانوا ينقلون من جبهات القتال خلال الحرب مع ايران الى مستشفيات بغداد.
لقد ضاع هذا الجهد الذي يهدف الى اجراء مقاربة بين معنويات المقاتل قبل ان يصاب بجروح ويخلى من جبهة الحرب، وحالته النفسية بعد الاصابة.
وفي ذلك خلصت الى نتائج باهرة قبل ان يهدر جهد عقد من الزمان بسرقة منزلي.
خلال عملية الغزو حدثت جرائم كثيرة واستخدام محرم للاسلحة من قبل افراد القوات الامريكية، هل وقفت على بعضها بوصفك كنت قريباً من مطار بغداد الذي جرى الانزال الامريكي على أرضه؟
– في هذا الشأن جمعت ادلة مهمة بينها ملابس عسكرية لجنود عراقيين واسلحة لجنود امريكيين قتلى وبدلات فارغة من اجساد جنود تم استخدام أسلحة محرمة دولياً في اصطيادهم، بحيث وجدت هذه البدلات بلا اجساد اصحابها. لقد ذابت كلياً. وقد جمعت هذه الادلة وكان في نيتي الكتابة عن المشهد الدموي والتدميري بعد حين، لكن حديقة منزلي التي جمعت فيها هذه الاشياء نهبت ايضاً.
واين ذهبت بعد ذلك.. هل غادرت العراق فوراً؟
– كلا.. انتقلت الى منزل شقيقتي في حي الخضراء مقابل العامرية ورأيت ان اباشر الدوام في مستشفى الواسطي، التي كنت مديراً لها، لكن بعد ايام جاءني موظف حاملاً كيساً ورقياً قال ان شخصين مجهولين سلماه له وطلبا ايصاله لي. فتحته فوجدت طلقة مسدس في داخله، ففهمت الرسالة وغادرت المستشفى.
وزاد الطين بلة ان دورية امريكية اوقفتني في الشارع واخضعتني للتفتيش بطريقة مذلة. فقلت اذن لا كرامة لي في بلادي.
الي اين ذهبت؟
– الى خارج العراق واخترت الاردن اولاً لعدم وجود اية حدود مفتوحة لاستقبال العراقيين.
وهناك امضيت ردحاً من الزمن قبل ان ارحل الى بلاد اخرى.
لاشك انك حملت شيئاً من وثائقك واعمالك الفنية او صورك الشخصية المهمة؟
– لم احمل شيئاً ابداً وغادرت منفرداً حفاظاً على روحي من التصفية.
ومما يؤسف له ان جيراني في حي الاطباء ابلغوني ان فنانين تشكيليين معروفين عدة، اقتحموا منزلي ايضاً ونهبوا بعض اعمالي الفنية ومنحوتات الفنانين من اصدقائي احتفظ بها، ومقتنيات شخصية اخرى.
قرأت جانباً من (مذكراتك) التي ترجمت الى العربية، في صحف محلية وعربية، ما قصتها؟
– لقد صيغت بطريقة غير أمينة وحذفت منها فصول تتحدث عن انتهاكات الامريكيين ضد العراق كما تضمنت مفردات لم اعتد على استخدامها في أحاديثي. ويوم تم دهم منزلي استولى الجنود على فصول مهمة.
وقد استأت لهذا العمل فاتصلت بابن عم لي يعيش في الولايات المتحدة ورويت له ما حدث ونصحني بالكف عن ملاحقتها واقترح علي مغادرة البلاد. كنت انوي تقديم شكوى وطلب تعويض.
علمت انك شرعت بمحاولة جديدة لكتابة المذكرات.. ماذا تم بشأنها؟– استعنت بصديق صحفي نرويجي لهذا الغرض كان ينوي كتابة يومياته عن حرب العراق ويملك وثائق مهمة حصل عليها من وزارة الخارجية وديوان الرئاسة، لكني صدمت بموقف غريب من دور النشر الامريكية.
لقد وضعت سلسلة من الشروط ، كما رفضت نشر اي معلومات او اتهامات بحق القوات الامريكية فيما يتعلق بتورطها في سرقة منزلي واستخدام اسلحة محرمة دولياً في حربها ضد العراق عام 2003، وساعدني هذا الصحفي على نشر ما سمي بمذكرات، فيما هي في واقع الحال عبارة عن جلسات حوارية طويلة استذكرت فيها وقائع وسردت حوادث مما علمته ورأيته وانجزته.
لكن ما تم نشره في هذا الكتاب اثار شعوراً بعدم الارتياح لدى البعض.. بماذا ترد؟
– الكتاب كما قلت ليس مذكرات شخصية بل هو سرد واقعي كما اني لست مسؤولاً عما ورد في معظم صفحاته نتيجة الصياغة التي يبدو ان محرر الكتاب حاول ادخالها بقصد الاثارة.
نعم واجهت صدوداً وردود افعال غير مريحة من البعض.
والحقيقة اني اكتشفت ألا أحد يعذرني او يفهم مقاصدي، ولاسيما بين اولئك الذين تلوثت أيديهم بدماء العراقيين من قبل ومن بعد.
رضا الناس غاية لا تدرك؟
– بالضبط.. هذا ماحدث تماماً ويؤسفني القول ايضاً ان معظم العراقيين وهم طيبون يتسمون بالعاطفية المفرطة ولا يريدون معرفة الحقائق كما هي.
ما نسبة صحة ما جاء فيها من معلومات؟
– دعني اؤكد انها لم تكن سوى وقائع لا رأي لي فيها. وكنت قد اشترطت ترجمتها الى جميع لغات العالم باستثناء العربية لكني فوجئت بنقلها الى العربية واصدارها، وقد اتصلت لهذا الغرض بدار الشروق معترضاً لكن صاحب الدار زعم وجود اتفاق مع دار النشر الاجنبية فتراجعت.
معظم الذين يعرفونك عن قرب يتحدثون، في الغالب، عنك كطبيب لصدام.. ما الذي بقي في ذاكرتك من مهمتك الطبية او العلاجية معه؟
(يصمت علاء بشير.. ينظر الى الافق وكنا نجلس على مسطبة بحديقة ملحقة بقاعة معرض العزاوي القريبة من متحف الفن الاسلامي على شاطئ الخليج ثم يواصل):
– الرئيس صدام كان لا يختلف عن المرضى الاخرين الذين اعالجهم، لكن يختلف عنهم في التزامه الصارم بوصايا الطبيب وتوقيتات تناول الدواء.
كما انه ايضاً يحترم جداً ارائي وينصت وهو يستمع الى النصح والارشاد الطبي.
انا طبيب اديت القسم واتحلى باخلاقيات مهنة الطب ويتعين ان اكون أميناً معه ومع غيره.
لاشك في انه كان يبادلك الحديث احياناً عن نشاطك الفني.. هل حدث ذلك؟
– احياناً فقط لكنه ارسل في طلبي لأمر علاجي وسألني عن سر خلو ساحة من ساحات بغداد من عمل نحتي او تمثال لي.
وكنت اقول ان الجهات البلدية (امانة بغداد) غالباً ما تضع شروطاً لا تناسبني كفنان، مشترطة بعض المواصفات والأفكار ولهذا لا استجيب الى اعلاناتها بهذا الشأن.
لكن تم اختيار نصب اللقاء الذي وضع بأهم ساحات بغداد عند مدخلها الشمالي وسميت الساحة باسم النصب ذاته؟
هذا صحيح. لقد امر الرئيس بأن اتولى شخصياً اختيار احد اعمالي لهذا الغرض، ورأيت ان يكون نصب اللقاء.
الى ماذا كنت ترمز فيه؟ يقولون ان له قصة؟– انه يشير الى عناق رجل وامرأة. انه بريء من اي تفسير سياسي او غير سياسي. ولعله كان مناسباً جداً في الموقع الذي تم وضعه فيه في تقاطع السفارة الاردنية ببغداد.
ان الطريق السريع المقبل من طريبيل ينتهي فيه، وان جل القادمين من عمان يترجلون من الحافلات التي تقلهم في الساحة ايضاً، كانت ساحة لقاء صدقاً. ومن المؤسف ان تم تهديمه بالطريقة التي جرت قبل بضع سنوات.
وهل صادف ان قوّم صدام اعمالك تقويماً نقدياً. هل ترى لديه رؤية فنية نقدية او انطباعات يحرص على ابلاغها عن اعمالك؟
– كان يثني علي ثناء كبيراً. وامام الوزراء او المسؤولين الذين يرافقونه كان يؤكد تميزي بالطب والفن التشكيلي. انه كان ميالاً الى الاعمال الانطباعية لكنه لا يتنكر او ينتقص من الاعمال التجريدية والتجريبية.
كان يقول ان رؤى علاء بشير سابقة لأوانها. قد نكون لا نفهمها لكن اجيالاً قادمة ستفهمها بالتأكيد وتدرك رموزها وابعادها.
هل كان يكتفي بالاستعانة بك كطبيب فقط؟
– ذات مرة اشتركت في بعثة لتسوية نزاع سياسي وقع في اليمن الجنوبي.
كان هناك تصادم بين بعثيي اليمن واشتراكييه، وصادف ان مهمتي تركزت على اجراء فحوصات لمواطني مدن الجنوب.
لقد اذهلني ما شاهدته من تخلف اجتماعي، وهيمنة قبلية خارج العاصمة عدن. وانا الان افهم جداً سر هذا الصراع الدموي المتفاقم بين الشمال والجنوب بل وبين الفرقاء جميعاً والاصرار على استمراره برغم نزف الدم وحجم الخسائر البشرية والمادية. مؤسف ما يجري في اليمن على اية حال.
وهل فكرت بالتفرغ الى العمل الفني تاركاً الطب؟
– مرة أبديت مثل هذه الرغبة أمام الرئيس فعبرّ عن انزعاجه. لعله كان يريدني ان ابقى فناناً وطبيباً في القوت ذاته.
مكثت متنقلاً بين عدة عواصم قبل ان يحط بك الرحال في لندن.. اين كنت عندما تم تنفيذ حكم الاعدام بصدام؟
– كنت في الدوحة وتابعت الاخبار عبر القنوات الفضائية، ولحظتها رن جهاز النقال فاذا استمع الى صوت الفريق الركن نزار الخزرجي يهاتفني من النمسا.
كان من اشد المعارضين للرئيس صدام منذ هروبه من العراق لكنه سألني هل رأيت ما حدث؟ وتابع القول انه برغم معارضتي للرجل فاني اؤكد لك ان العراق لم ينجب قائداً كصدام برغم كل اخطائه.
واضاف ان قلبي الذي كان مملوءاً حقداً عليه فرغ الان من الماضي واشعر ان روحي نظيفة لا تحمل ضغينة عليه.
على ذكر الخزرجي.. اين هو الان؟
الرجل يعاني من مرض ألم به، وانا حزين على وضعه ووضع صديقي الاخر الفريق المهندس عامر السعدي، الذي يعاني منذ ثلاث سنوات من حالة شلل تام.
لعلها خسارة كبيرة بالنسبة لعالم في التصنيع كالسعدي، الذي يحظى الان برعاية من زوجته المخلصة، وهي المانية الجنسية، وكانت تعيش معه في العراق طوال عقود طويلة.
هل نتحدث عن تجربتك في علاج عدي نجل صدام بعد اصابته من محاولة الاغتيال معروفة التفاصيل؟
– لعله مريض آخر خضع لرعاية مني، لم يكن ليختلف بشيء عن سواه صحيح انه كان ذا سلوك حاد، لكنه التزم معي بالعلاج وتدابير انقاذه.
ودعني اكون أميناً ان الطبيب يعالج شخصاً مريضاً او يعالج أباه لكن اي خطأ عرضي يحدث تراه يستفزه فيقوم بالاعتداء على الطبيب.
وهو سلوك سائد في المستشفيات حتى اليوم.
لكن مقربين له قالوا ان عدياً طلب من سكرتيره الصحفي عباس الجنابي انذاك نظم قصيدة هجاء ضدك بعد فشل عملية جراحية تقويمية له؟
(يضحك الدكتور علاء بشير) وينأى بنفسه عن الاجابة ثم انتقلنا الى موضوع آخر) وسألته:
وعلاجك لاصابة وطبان عم عدي؟ لعلك تحدثت عن واقعة شجارهما في ما يسمى مذكراتك اياها؟
– كانت اصابة وطبان بليغة جداً، وفقد قدرة السير على قدميه نتيجة نيران الاسلحة التي وجهت اليه.
وهكذا بقي معاقاً طوال بقية حياته.
حسن.. واين انت الان؟
– أنا منتقل بين لندن والدوحة.
اجيء الى قطر كل شهرين تقريباً لاجراء بعض العمليات الجراحية في مستشفياتها ثم اعود الى عائلتي هناك.
وعلى صعيد الفن ما الذي انجزته؟
– اقمت عدداً من المعارض الشخصية، منذ مغادرة العراق، في كل من لندن وبعض الولايات الامريكية، كما يحتفظ متحف قطر للفنون ببعض اعمالي التشكيلية.
قبل ان اودع الدكتور علاء بشير استرجعت في ذاكرتي نماذج من اعماله الفنية البارزة: لوحة الغراب الذي ينقر في عين شخص يرتدي قميصاً ابيض وتمثال الصرخة التي اخترق فم مطلقها جداراً مصنوعاً من آجر طيني؟
ورأيت في احدث اعماله تمثالاً جديداً مستوحى من الصرخة الاولى التي شهدها معرضه في بغداد اواخر الثمانينات، الفم ظل يصرخ ويواصل الاحتجاج بقوة، وكأنما يريد بشير من خلاله ان يسمع العالم جزءاً من معاناة انسان محاصر تحت التسلط من اي فئة كان وتحت اي نظام سياسي يقبع، مؤكداً ان الكفر يدوم لكن الظلم الى زوال. لقد قال بشير:
– ان هذا العمل النحتي انجزته مطلع التسعينيات ابان حرب الخليج الثانية، مع مجموعة من الاعمال أسميتها افكار من تراب وترمز فيما ترمز اليه جريمة قصف ملجأ العامرية في شباط 1991.