لم يعد سرا تأخر المشاريع الحكومية والخاصة وتعثرها، والتسبب في خسارة بلادنا مئات الملايين من الدولارات سنويا .. ولم يعد سرا وجود مشاريع تنموية مهمة معطلة في جميع القطاعات..
ولم يعد سرا حقيقة إسناد المشاريع لغير القادرين وغير الأكفاء. يعد تعثر المشاريع قضية بالغة الأهمية و تحتاج إلى سبر أغوارها من أجل كشف الحقيقة الغامضة و معرفة أسباب و تداعيات التعثر و الأطراف إلى تقف وراء ذلك و تحريك ملف هذه القضية حتى لا ينتهي به المطاف إلى الإغلاق و إهدار مئات الملايين من الدولارات سنويا من خزينة الدولة والمال العام. وبالرغم من غياب الإحصاءات الرسمية عن النسب الحقيقة لتعثر المشاريع في موريتانيا وعن حجم المشاريع التي تم تنفيذها بالوقت المحدد، ألا أن بعض الخبراء المتتبعين للسوق الموريتاني يتوقعون نسبة تعثر تتجاوز 65% من حجم المشاريع ، وهو أمر لا يحدث في أكثر الدول تخلفا ، حيث يبلغ معدل التعثر في دول العالم الثالث 25 % . وبالرغم أيضا من غياب مسح علمي شامل يحدد الأسباب العديدة وراء تعثر المشاريع في موريتانيا مع الطفرة في مجال المناقصات العمومية في السنوات الأخيرة ، إلا أن المتتبع الخبير وحتى الغير خبير، يلاحظ أن السبب الرئيسي والأول ، و يكاد يكون الأوحد في اغلب المناقصات، هو تفضيل الشركة ذات العرض المالي الأقل، و الغير معقول في بعض الأحيان،على الشركة الأولى فنيا صاحبة العرض المالي المعقول على مستوى الشركات المتنافسة.
وليس بالغريب تصنيف موريتانيا مؤخرا من قبل موقع فوربس العالمي على هرم أسوا الدول من حيث إقامة المشاريع وذلك لعدة عوامل ، من أهمها إدارة المخاطر الناتجة عن سوء اختيار الشركة المنفذة وعدم القدرة على التعامل مع المشاكل الناتجة عن ذلك الاختيار.
فالمتتبع الجيد للمناقصات الحكومية والخاصة في موريتانيا، سيجد تباين واضح في فوارق الأسعار بين المرتبة الأولى والثانية ( أي الشركة الأولى فنيا) في تلك المناقصات و وجود تقارب واضح بين المرتبة الثانية وبقية الشركات في المراتب المتبقية. فعلى سبيل المثال، كل الشركات الصينية الفائزة في المناقصات الحكومية والخاصة الموريتانية (شركات صينية كبرى تابعة لمجموعات عملاقة في مجال الأشغال والطرق والمياه في مناقصات وزارة النقل أو الإسكان والعمران أو الشركة الوطنية للمياه، والشركة العملاقة الصينية في مجال الإنشاءات والهندسة المدنية، والتي هي أحد فروع الشركة الصينية للسكك الحديدية، وذلك في مناقصة مبنى البنك الموريتاني العام) ، قدمت عروض مالية بفوارق تفوق الضعف في بعض الأحيان بينها وبين الشركات العالمية في المراتب المتبقية.
والمتتبع الجيد لحال تلك المناقصات يلاحظ بروز العوائق مع أولى خطوات العمل. فأحيانا تتعذر تلك الشركات الصينية الفائزة بدعوى إيقاف العمل بالتصاميم المعدة مسبقا من قبل المكتب الاستشاري الهندسي لوجود خلل فيها أو لعدم قدرتهم على متابعة العمل بها، وأحيانا بدعوى تمديد عمر المشروع والذي قد يصل أحيانا إلى ضعف المدة المقررة مسبقا، وأحيانا أخرى بدعوى طلب توقيع ملحق للعقد يتضمن زيادة المبلغ الإجمالي بحجة وجود تكاليف غير متوقعة في الإنشاء (حيث أن الشركة قد قررت مسبقا تقديم العرض الأقل بالرغم من خسارتها فيه وذلك على أمل التعويض من خلال طلب الزيادة المالية في الملحق)، أو (لا قدر الله) التلاعب بالمواصفات والمقاييس والجودة المتعارف عليها عالميا وتسليم منتج أو مبنى ذو جودة رديئة جدا جدا (أنظر حال مباني الوزارة الأولى و وزارة الاقتصاد والخارجية الجديدة التي لم يمضى على إنشائها سوى سنوات قليلة جدا وبالرغم من أن تنفيذها تم بدون منافسة مع شركات أخرى) ، أو وصول الأمر إلى طريق مسدود مع الجانب الموريتاني في مجال التفاوض وإيجاد حلول للكثير من المشاكل التي تواجههم مما يدفع بالشركة إلى الانسحاب من التنفيذ و إلغاء العقد (كما يقول المثل: بعد خراب مالطا). ولو قبلت الجهات الحكومية أو الخاصة صاحبة تلك المشاريع المتعثرة بكل المطالب المختلفة للشركة المتعثرة، سيجعلها أمام إشكالية كبيرة وأعباء إضافية والتزامات أكبر من طاقتها، مما سيؤثر سلبا على أداء و الخطط الإستراتيجية لتلك الجهة الحكومية أو الخاصة.
ولو كان حالنا كحال بعض الدول المتقدمة، لتمت إقالة وتقديم المسئولين عن ضياع تلك الأموال الضخمة والوقت والجهد في تلك المشاريع المتعثرة للمحاكمة، والتي كان بالإمكان تفاديها لو تم إتخاذ القرار الشجاع الصحيح بتفضيل الشركة صاحبة العرض الفني الأعلى والمالي المعقول على الشركة ، التي غالبا ما تكون صينية، صاحبة العرض المالي الأقل والغير معقول في بعض الأحيان. فالشركة صاحبة العرض الفني الأعلى والمالي المعقول لديها السمعة الممتازة و الاستقلالية و لا تسمح لأحد بالتدخل في عملها، ولديها الخبرة والتواجد العالمي والقدرة اللازمة لتنفيذ جميع الأعمال المطلوبة بالمواصفات والمقاييس والجودة والمتعارف عليها عالميا، واحترام الآجال الزمنية المحددة. فإذا أردت أيها القارئ الكريم، أن تكون متنبأ جيدا لحال مشروع في موريتانيا وبأن مصيره محتوم بالفشل، تابع الشركة الفائزة بالمناقصة الموريتانية حكومية كانت أم خاصة، ذات العرض المالي الأقل و الغير معقول في بعض الأحيان ، وفي غالب الوقت ستكون تلك الشركة صينية، وفي أحيانا أخرى قد تكون أوروبية كما هي الحال مع شركة Elecnor الاسبانية التي تواجه حاليا مشاكل عديدة بعد فوزها بمناقصة مبنى تابع لشركة سنيم في نواكشوط على أرض "بلوكات" سابقا الذي يفوق قدرتها الفنية وخبرتها في مجال المباني. ستلاحظ عند تتبع تلك الشركات حصول جميع تلك العوائق الأنفة الذكر وتسلسلها ابتدآ بالتصاميم الغير مطابقة لرؤية الشركة و المعدة مسبقا من قبل المكتب الاستشاري الهندسي ، مرورا بزيادة المدة الزمنية لإنجاز المشروع و بطلب توقيع ملحق يتضمن الزيادة المالية ، ثم انسحاب الشركة و إلغاء العقد وتوقف المشروع. وأخيرا وليس أخرا حسرة وندم من قبل أصحاب الضمائر الحية وهم يعدون على رؤوس الأصابع في وقتنا هذا ، على ضياع مئات الملايين من الدولارات سنويا من خزينة الدولة والمال العام.
يحي ولد أحمد