قرية عركوب توركيلين ... عبق التاريخ و جمال الحاضر و تطلعات المستقبل..

جمعة, 2017-08-11 18:32
الكاتب الكبير إسلم ولد أحمد سالم

لملمت أشيائي للسفر إلى توركيلين ، بدعوة من صديق عزيز ، عرفته في المعهد العالي العلمي و في ثانوية طينطان ، و عرفت فيه خلالا هي سجية مجتمعه ، الأريحية و الكرم الطافح و نكران الذات رغم معطيات التميز ..

السفر إلى القرية من مقطع الأحجار يتطلب قطع 75 كلم و ساعة لغير المتسرع ، لكنها إبحار في التاريخ يتطلب مخر عباب بحر زاخر بالمعالم و المكارم .ليس سكان المقاطعة ممن يجهلون القوم ، فعلى بعد كيلومترات من المدينة ينتصب التوأمان بقامتيهما الفارعين ، و تحيط بهما هالة من الوقار و الجمال .

و على غرة التوأم الغربي يرقد الشيخ سيدي محمد ولد أمني ، والذاكرة الشعبية زاخرة بالقصص عن زيارته و مرجله و المتعالجين عند قبره ، قصص كثيرة و متواترة ، يستمع لها الناس بين متعجب و مستغرب و مصدق و متبرك.

يقول محمد ولد بي الجكني بعد مقدمة طللية:

فدع ذا وعدي القول في من تواضعت لهيبته من هام الرجال القلانس

تواضع إجلالا لعزة قدرهله فوق هام العارفين الطنافس

تربى بثوب الزهد طفلا وإنه لثوب المعالي والمهابة لا بس

يعيش الندى ما عشت ياشيخ سالما ويذهب إن واراك في الرمس رامس

فكم خائف جللت أمنا وعصمة وكم غشى من معروف كفيك يائس

وكم جاهل علما كسوت وكم طوت إليك عراض البيد بزل درافس.

عندما تيمم وجهك شطر القرية ستتسابق لمخيلتك الصور ، فالقوم معروفون بالعلم و الزهد و الورع و الكرم و نكران الذات و قد صدق الشاعر محمد عبد الله ولد أعبيدي الرحمن حين يقول فيهم :

بنوا على الرفع إن ناديت واحدهم

فأرفعه قد نال رفعا قبل كل ندا

وثق إذا جئتهم تبغ الهدى

بهدىوثق إذا جئتهم تبغي الندى بندا

وذا الذي بدالي من مفاخرهم

هو الذي لجميع العالمين بدا

فسأل بأخبارهم من كان ساكنه

ملا بل فسأل ذا الورى من أصدقاء وعدا

قوم غداة الندى الجم الغفير وإن

دعوتهم للخنا قلوا إذن عددا

إنهم يكثرون عند الفزع و يقلون عند الطمع ، و تتحدث الناس عن مكارمهم ، و تسير الركبان بفضائلهم ، لكنهم عن الكبر و الخيلاء في مأمن.انطلقت الرحلة صباحا في حدود العاشرة و النصف ، بعد أن طلعت الشمس قليلا عن المشرِّق ، و حتى يكون المقدم بعد عودة الرجال من شؤونهم.و قد كنت بين رغبتين : إما أن أسارع حتى أدخل القرية و أغتنم الفرصة لرصد حياتها لمدة أطول ، أو أن أتمهل حتى لا أغادر صغيرة و لا كبيرة

.عركوب توركيلين هي قرية حديثة أوجدتها حاجة سكان توروكين الأصلية للانتقال إلى مأمن عن السيول ، و قد تحول نحوها ، بمباركة من السلطات الإدارية، عدد كبير من الأسر ، و لها موقع جميل و مساعد على الاستقرار .فالقرية تقع غربي (تامورت توروكيلين) على الخط الفاصل بين (الذراع) و (آفطوط) ، ففي الصيف يمكن للمواشي تجاوز التل الغربي حتى تتمكن من الرعي بين أشجار السمر و السرح و البان و شجيرات الثمام و الحسنكيت ، و في الخريف و الشتاء يمكنها أن تنعم بامبساط السهل جنوبا بين أشجار الطلح و السدر و نباتات الكرير و الكطب.

تتوفر القرية على مضخة للمياه بها ملوحة ، لكنه ليس ملوحة النيترات المضرة ، كما أن لها ثروة حيوانية من البقر و الإبل و الماعز ، و ينبئك هذا التزاوج بين المواشي بطبيعة المنطقة و ما تزخر به من مقومات التنمية الحيوانية .

و رغم عمر القرية (4سنوات) فقد بنيت بها منازل كبيرة من الاسمنت و مسجد و قسم مدرسي ، و أفتتح السكان لأنفسهم بنك حبوب و تعاونية نسوية ، و تم تخطيط القرية من طرف مهندس معماري .

لم يتمكن السكان حتى الآن من افتتاح مدرسة أو توسعة من مدرسة توروكيلين التي لا يستطيع الصغار الوصول إليها ، فقد أحجمت السلطات عن ذلك حتى الآن رغم توفر الأعداد و مطابقة تقرير المفتشية للمعايير و موافقة الوالي و الحاكم ، لكن الوزارة لا زالت تتلكأ في الأمر لأسباب غير مفهومة لدى السكان.

عندما جئت القرية لقيت حفاوة كبيرة ليست مستغربة من طرف المدعوين من أبناء القرية ، و جالست قوما يتحدثون في كل فن ، الفقه و الأدب و علوم القرآن و التاريخ و الفكر و السياسة ، كما يقول الشيخ سيدي محمد ولد الشيخ سيديا

حَوَوْا أَدَبًا عَلَى حَسَبٍ فَدَاسُو

اأَدِيمَ الْفَرْقَدَيْنِ بأَخْمصَيْنِ

أُذَاكِرُ جَمْعَهُمْ وَيُذَاكِرُونِي

بِكُلِّ تَخَالُفٍ فِي مَذْهَبَيْنِ

كَخُلْفِ اللَّيْثِ وَالنُّعْمَانِ طَوْرًا

وَخُلْفِ الْأَشْعَرِيِّ مَعَ الْجُوَيْنِي

وَأَوْرَادِ الْجُنَيْدِ وَفِرْقَتَيْهِ

إِذَا وَرَدُوا شَرَابَ الْمَشْرَبَيْنِ

وَأَقْوَالِ الْخَلِيلِ وَسِيبَوِيهٍ

وَأَهْلَيْ كُوفَةٍ وَالْأَخْفَشَيْنِ

فوجدتني أجلس جلسة المتعلم .

و على مائدة الطعام ، التي استغفلتنا من غير ضجيج و لا لغط ، امتزجت حضارة تكانت و آفطوط ، مع لمسات حضر لافتة ، و طيب نكهة يشعرك بطيب المكان و طيب محتد الساكنة و حلية ثمن الذبيحة ...

و عندما أذن المؤذن انتفض الجمع ، و انزوى كل واحد منهم يستاك و يتأهب للصلاة ، و أقيمت صلاة رغم سريتها إلا أنها تشعرك بتحليق بعيد في عالم الأرواح ، فقد اصطف القوم ، المنكب بالمنكب و الساق بالساق ، و انقطع الأصوات و خشعت الأنفس و غابوا في الاجتهاد في تتبع فضائل الصلاة .

و كانت جلسة ما بعد الصلاة مناسبة للحديث و تبادل الأخبار و تحليل الأوضاع و التنبيه للأولويات .سألت صغيرا ، و أنا أجلس للوضوء ، هل تدرس . قال : (كسرت الذهابة) و لكن الحي لا يتوفر على مدرسة حكومية .طوال اليوم لفت انتباهي غياب النساء عن ناظري ، إنها الخبرة في الاحتشام و الابتعاد عن مواقع الشبه ، و التطبيق الحرفي لتعاليم "يدنين عليهن من جلابيبهن "في المساء ، و بعد يوم حافل الأحداث و الحكايات و وقع الاكتشافات ، ذهبت لتحية شيخ مسن من القرية ، لعلني أطلع لبعض ما غاب عني من طبيعة السكان ، و قد بهرني وجهه الصبوح إبتسامته المشرقة و كأنها لشاب عشريني ، و استغرقني حديثه العذب و لغته الهادئة المنتقاة بعناية ، فعرفت أنه رجل صالح واسع المعارف منقطع في العبادة و أن النضرة على محياه من انقطاعه في التهجد و التعلم.

و قبيل المغيب أذنت ساعة الذهاب ، فتقدمت مع مودعي إلى السيارة ، و انطلقت إلى المقاطعة ، و ألقيت من المرآة الخلفية نظرة على القرية الوديعة و كأنها تقول لي : تلك كانت البداية و لا زلت ألف عنك الكثير من عبق التاريخ و جمال الحاضر و تطلعات المستقبل ..

لقد فقدت كل الصور التي صورتها من القرية في جهاز الهاتف و المصورة ، لكنني لم أفقد الصورة المشرقة لها في مخيلتي و لن أستطيع أن أعطي منها غير شذرات قليلة لاكتنازها بالمعاني و القيم ...

بقلم : الكاتب الكبير إسلم ولد أحمد سالم